سلام من صبا بردي ورباها، فها أنا أفتقد الدمشقيين نزار قباني وغادة السمان لكن غياب غادة يلح بشدة هذه الأيام وأود سماع صوت قلمها وصريره، فهي من المتمردات سياسيا واجتماعيا وثقافيا، ومن اللواتي يملكن القدرة علي تحديد أفق البوصلة بدقة في زمن فيه تضليل وتزييف وتخويف وتخوين وقبل هذه وتلك وذاك، ليس المهم أن تكون غادة وغيرها من القامات المهيبة في عالم الأدب »مع أوضد« الأهم أن نسمعها، فالصمت في هذه المرحلة لا يليق بعاشقة دمشق التي كتبت لمدينتها أحلي رواياتها، فربما يكون ما ستقوله حاليا يكمل تلك الرواية المتروكة لنهايات مفتوحة تليق بأقدم حواضر التاريخ، وأحلي مدن الجغرافيا. الدمشقية الأخري كوليت خوري من الدائرة النزارية أيضا لكنها لن تعتب ان لم نفتقدها فقد شطبت نفسها أدبيا منذ زمن طويل وقنعت بوظيفة مستشارة في القصر الجمهوري، فلما قامت الثورة لم يكلف أحد نفسه أن يسأل عن موقفها، فالسؤال عن موقفها وهي في ذاك الموقع من سنوات سيكون كمن يسأل: وما موقف بثينة شعبان من الثورة السورية؟ فالأخيرة أيضا تعتبر نفسها كاتبة وتعتبر مواقفها مؤثرة. أدونيس نطق بعد ضغوط ومن يومها لم أكن من أنصار الدخول في سجالات معه، فأمام الدم في معارك الحريات الكبري لا تنفع »الفذلكة« لكن يحسب له انه امتلك الشجاعة ليقول أين يقف؟ أما أن يكون ذلك الموقف ضد الحرية والثقافة وحركة التاريخ وتراثه الشخصي، فتلك قضايا أخري ليس هذا أوانها. العبارة الوحيدة التي سجلتها يوم بدأ أدونيس يلف ويدور محرجا كي لا يحرج الرئيس ومستشاريه هي »لو قال ان موقفه هذا ينبع من خوف علي الطائفة لفهمناه أكثر« أما الدخول في متاهات الاحتجاج علي خروج المتظاهرين من الجوامع ومحاكمة تاريخ البعث والديمقراطية لإيصال فكرة هامشية، فيشبه كما قال نادر قريط عملية استئجار سفينة ضخمة لتهريب كيس طحين إلي ميناء محاصر. ومن الذي مات ومايزال يمشي إلي الغائب الحاضر نزار قباني يتملكني الشعور انه لو بقي بيننا لكان الأوضح والأصرح، ولوجد في مظاهرات الميدان الدمشقية ضالته ليخرج ما في صدره من غضب مكتوم، ويبدأ بتسميات تحاشاها طويلا مستغلا مساحة الرمز وما يتيحه للشعراء من جماليات مختلفة في المعاني والمباني، وكما يثبت من عاشت قصائدهم بعدهم تظل من خلف غلالة شفافة أحلي. وما كانت غلالات نزار وخصوصا في قصائده السياسية تحجب كثيرا، فقصيدة »عنترة« التي كتبها نزار قبل أن يحترق وجه الرئيس اليمني بأكثر من حقبة ونصف، والتي أعاد الشباب السوري لها الحياة نصا وصوتا علي »فيسبوك« هذه الأيام تحكي دون مواربة عن ديكتاتوريات معروفة وسيافين مشهورين وحالات من النفاق الثقافي الذي صنعه الخوف وترقت بترفه المعيب المصلحة، ونربأ بغادة السمان أن يصيها رذاذه، ومن تلك القصيدة يقول نزار: هذي بلاد يمنح الكتاب فيها صوتهم لسيد المثقفين عنترة يجملون قبحه.. يؤرخون عصره.. وينشرون فكره.. ويقرعون الطبل في حروبه المظفرة.. لا نجم فوق شاشة التلفاز إلا عنترة بقده المياس، أو ضحكته المعبرة صاحب الضحكة المعبرة عرفناه مع ان الأحداث غيبتها وأخفت صاحبها الممتلئ ذعرا وجزعا، وصاحب »الزنقات« يمكن أن تعثر عليه مع غيره من الذين أعلنوا الحرب علي شعوبهم بمختلف أنواع الأسلحة علي غير طريقة غادة السمان أقول يمكن ان تجد »المزنوق« حاليا والراحل قريبا في قصيدة سياف عربي، ولو أعدت التأمل في النصوص السياسية النزارية التي يعيد الشباب العربي اكتشافها بروح جديدة معززة بالمؤثرات فسوف تجد بين كل مقطع وآخر وجها معروفا أو مبني نعم حرفيا مبني فهناك من يزعم ان مبني الجامعة العربية علي شاطيء النيل لابد ان يظهر لمخيلة القاريء في مقطع من قصيدة »المحضر الكامل لحادثة اغتصاب سياسية« وإلي جانبه مقر الحزب الوطني المحترق كوجه علي صالح ليعكس المبنيان والمعنيان الفرق بين زمن وآخر اما المقطع المقصود فهو: كتب التاريخ لاتعني لنا شيئا وأخبار علي ويزيد أتعبتنا اننا نبحث عمن لايزالون يقولون كلاما عربيا فوجدنا دولا من خشب ووجدنا لغة من خشب وكلاما فارغا من أي معني لقد اسيء فهم نزار وموقفه من النظام السوري في عهد الأسد الأب كثيرا وحاولت أبواق معروفة الأهداف في هذه المرحلة بالذات ان توحي بأنه وقسما من عائلته كانوا من المؤيدين مستغلين في رواياتهم المعنعنة زواج ابنة شقيقه في مرحلة من المراحل من باتريك سيل الصحافي البريطاني الذي كان علي علاقة جيدة بالأسرة الأسدية وسجل سيرة صعود الأب في كتاب ولعل العمر يمهله ليسجل في كتاب آخر مرحلة سقوط الابن. ومعظم ما قيل عن هذا التأييد لا أساس له فقد سمعت الشهر الماضي السيدة المقصودة رنا قباني ابنة الدبلوماسي صباح قباني علي القناة الإنجليزية الرابعة تقول في بشار ونظامه أكثر مما يقوله عنه معارضوه. وسمعت في لندن وجنيف من نزار شخصيا قبل رحيله بأعوام الكثير عن معاناته في زيارات دمشق، وان أنسي لا أنسي تأثره وهو يحكي لي في المطعم العائم علي ضفة بحيرة ليمان كيف اضطر لمغادرة دمشق بعد ساعات من إلقاء قصيدة السياف التي نصحه اخوه ان يمتنع عن قراءتها في أمسيته الدمشقية، فلم يعمل بالنصيحة كي لايري نفسه جبانا في مرآته، ولحقته تبعات ذلك الموقف إلي الممات حين بدأت المساومات للسماح بعودة جثمانه إلي المدينة التي أحبها وكتب لها وعنها أحلي القصائد. دمشق بخير هذه الأيام وتدب فيها روح جديدة من غرس تمرد غادة ونزار وغيرهما من الذين احترفوا الكتابة حريقا لا زعيقا، أما أنتم يا أيها الصامتون والصامتات فليس لكم في النهاية حسب الدرس النزاري غير المرايا، فمن يصمت خوفا أو طمعا هذه الأيام لن يستطيع احترام الوجه الكئيب الذي سيقابله يوميا في المرآة، فربما ينظر إليه الوجه شذرا مغتاظا من قبحه ذات يوم ويقول: لو لم تكن جبانا أو منافقا ووقفت مع حرية الشعوب وكرامة البشر بدل أن تقف في صف الجلادين والسفاحين لكان وجهك اليوم أحلي وأبهي.