الحرية حارقة والمطالبة بها محرقة، فيا نار كوني سلاما ونغما علي حنجرة إبراهيم. لقد كان القاشوش بلبل حماة الغريد ذاك الذي خلع بشار حنجرته ورماه زبانيته في نهر العاصي بلا حنجرة يوم شدا في جمعة »ارحل« وما قبلها بأهزوجته الذائعة »سوريا بدها حرية« أقول كان يعرف من سير العشاق والمغنين انه منذور للماء والغناء وإنه سيتحول مع الزمن الي رمز لشعبه ومنطقته تماما كجاره ديك الجن الحمصي لكن شتان بين التعلق بحسناء ملهمة يشدو لأجلها فرد وتزغرد لجمالها قصيدة وبين التمسك بأهداب حرية يصنعها ثوار شجعان وتهفو اليها الأفئدة من الفراتين الي النيل لتشد ما بين القاهرة ودمشق أواصر إبراهيم قاشوش مع الشيخ امام ومحمد منير وتربط ما بين يوسف شاهين وعمر أميرلاي بخيوط من حرية وحرير. علي صوتك علي صوتك بالغنا لسه الأغاني ممكنة نعم كان القاشوش الذي سمع هدير الحريات بحناجر البسطاء من تونس الي مصر يعرف »لسه الأغاني ممكنة« وكان ككل مغنيي الحرية الكبار من ثيودوراكس الي فيكتور جارا والشيخ إمام يدر ان المصائر تحركها في المنعطفات التاريخية الكبري الحناجر لكن يا تري هل شاهد زبانية بشار ومنفذي سياساته وأوامره فيلم »المصير« ونجحوا فيما أفشلته الدراما الشاهينية التي انتصرت للصوت، والصدي ولم تسمح ل »شبيحة« ذاك الزمان بالاحتفال بنجاح مؤامرة الاستبداد علي حنجرة الحرية. فيلم شاهين عن ابن رشد بدأ بحريق كتب وبشر في ساحات قرطبة وجاءت بشارة نصر الثورة السورية من ساحة العاصي ومن حنجرة ضاق بها النظام فخلعها لينبت منها كما أسنان التنين الأسطوري ملايين الحناجر، أما عمر أميرلاي المهووس بالثورة والتغيير وصديق القرامطة وثورتهم، وصاحب فيلم »طوفان في بلاد البعث« فقد رحل - ويا لسخرية الأقدار - في أول يوم خرجت فيها مظاهرة سورية للمطالبة بالحرية من الجامع الأموي بدمشق أخت قرطبة بل أمها. ولا نعرف الآن علي وجه الدقة ماذا قال الجلادون للبلبل الحموي ابراهيم قاشوش قبل ان يجزوا صوته، وينزعوا حنجرته لكن اختيارهم لها يوضح الهدف الذي من أجله جاءوا وهم يظنون ان جز حنجرة ينهي المشكلة تماما كما ظن من أرسلهم ان إطلاق الرصاص الحي علي قلوب المتظاهرين ينهي الثورات ولو سأل هؤلاء سميح شقير الذي غني لأطفال درعا أغنية »يا حيف« لرد عليهم بمقطعه الأشهر: لو رحل صوتي ما بترحل حناجركن عيوني علي بكرا وقلبي معكن لو راح المغني بتضل الأغاني لقد أعتقد بينوشيه سفاح تشيلي السابق ذات يوم ان اغتيال شعراء الحرية ومغنيها يطفئ نار المطالبة بها ففتك بالشاعر بابلو نيرودا واغتال زبانيته المغني فيكتور جارا بعد حفلة تعذيب علنية في الملعب البلدي بسانتياغو ومن أوراق تلك الأيام كما يذكر شهود عيانها أن الجنود حطموا أصابع المغني التي كان يعزف بها علي قيثارته ثم طلبوا منه ساخرين ان يغني، ولدهشتهم انطلق يشدو بصوته الأجش الحنون أغنية النصر والتحدي: الاغاني تظل دون مغزي ما لم يدندن بها رجل بالموت لايبالي رجل يموت وهو بصدق يغني وفي لحظة التحدي التاريخية تلك بدأ الضابط الذي اعتقله يلعب معه لعبة »الروليت الروسي« فيضع رصاصة واحدة في سبطانة المسدس ثم يديرها ويطلق الي ان اخترقت الرصاصة رأس المغني في المحاولة الخامسة وبعدها أمر القاتل جنوده بافراغ رصاص رشاشاتهم في جسد مغني الحرية الأكبر في امريكا اللاتينية الذي تم رميه مشوها في شوارع العاصمة التشيلية الي ان تعرفت عليه زوجته البريطانية التي يعود اليها الفضل في إنقاذ تراثه الغنائي الذي ظل يلهم أجيالا متتالية من الثوار في جميع أنحاء العالم أوليس هو القائل: النصر أغنية شجاعة واحدة تتوالد الي الأبد. وبدل ان تموت الأغنية برحيل المغني وينطفئ تأثيرها وذكر صاحبها حملت الريح ما جري لفيكتور جارا الي جميع انحاء العالم ووصلت الي العالم الفلكي »نيكولاي شيرفج« الذي اكتشف في تلك الايام كوكبا سيارا جديدا حمل الرقم 4463 في التصنيفات الفلكية وقد اختار مكتشفه ان يطلق عليه اسم »كوكب فيكتور جارا« ليصبح في السماء كوكبا يهدي الأحرار ويذكر الطغاة ان الاغاني أخطر واقوي من الدبابات والمدافع حين يتم توظيفها من أجل مجد الانسان والدفاع عن كرامته وحريته وأنها هي التي تنتشر وتبقي لا تلك الأغاني الهابطة المخصصة لمديح الجلادين ونفاقهم. ولا ذكر للسفاحين وأعوانهم اليوم في العاصمة التشيلية أما الملعب البلدي الذي أعدموا فيه المغني بعد تعذيبه فقد صار اسمه ايضا »ملعب فيكتور جارا« وهذا ما ستفعله الثورة السورية بعد انتصارها حين ستزيل أسماء الوحوش عن المطارات والساحات والشوارع والسدود ليصار الي تسميتها بأسماء الشهداء والأبطال الذين يصنعون لسوريا كما صنع ثوار الميدان لمصر تاريخا جديدا يليق بتاريخها وحضارتها. وطبعا لا يعرف الذي أصدر الأوامر باغتيال ابراهيم قاشوش ان ضحيته التي تحولت الي رمز صارت اكثر تأثيرا علي مسار الأحداث بعد رحيلها وأن صوت الحنجرة التي جزها زبانيته تحول الي نغم صادح في صدر كل عاشق للحرية لا في سوريا وحدها بل في كل بلد »بدو حرية« وسوريا بدها...... وسوريا بدها.... أما انت يا ابراهيم فلتقر عينا وقلبا وحنجرة فسنذكرك كلما تحرك ماء النهر في النواعير وكلما انطلقت الأغاني كأسراب الحمام تبني بدأب أعشاش حريتها واستقرارها ولك ان تتأكد وروحك تحلق فوق ساحة العاصي ان الذين قتلوك والذي أعطي الأمر باغتيالك سيندثرون جميعا كالحشرات والخفافيش ولن يبقي لهم ذكر في غير كتب الفساد والاستبداد والجريمة.