أم كلثوم لم تكن وصلة أغنيات جميلة صنعت علي مهل وصنعت بحب للموسيقي والغناء، أم كلثوم كانت زمنا جميلا علي بعضه وصنع بحب للحياة والسعادة، الناس هناك (في هذا الزمن من خمسين سنة وأكثر ) كانوا يعيشون الحياة بمزاج . لم تكن الحياة سهلة لكنها كانت بسيطة، المزاج حاضر في كل وقت وفي كل التفاصيل، كل شيء مرتب بدقة في سبيل حياة مبهجة، لا يفوتك أن تسجل ملحوظة مهمة لها علاقة برغبة حقيقية بالاستمتاع بكل لحظة دون النظر في المستقبل، حياة المصريين كانت يوما بيوم، وأغلاها كانت يوم وليلة حفل أم كلثوم. كيف كانوا؟ (السؤال الأصح كيف كنا هكذا؟) بكل هذه العادات الإنسانية التي تسكن بيوتا بسيطة لكنها نظيفة ودافئة ومرتبة، وفي شوارع أغلبها يستحي أحد أن يلقي ورقة أو يبصق علي الأرض أو يرفع لافتة بلاستيك رديئة العناوين والألوان علي واجهات المحلات، وفي مصالح حكومية أو مؤسسات يذهب موظفوها بالبذلة الكاملة والكرافت للرجل والفستان الملون للمرأة (لم تضبط امرأة تحمل كيس الخضار في مكتبها حتي حينه) . عندي تفسير أننا كنا نقاوم الحزن بالالتزام بالسير في الطريق إلي بقاء حياتنا مفرحة. وكنا نقاوم أي بوادر قبح بالتمسك بالجمال في التفاصيل التي نعيش فيها . يحاول البعض تفسير ما وصلنا إليه الآن من عشوائية بأن تلك محصلة أخلاق وعلاقات الزحام الخانق، هناك فيلم جميل للمخرج محمد خان وبطولة فريد شوقي ويحيي الفخراني وليلي علوي اسمه (خرج ولم يعد) حاول خان اللجوء لهذا التفسير: الزحمة تولد القبح وكراهية وانتهازية وعشوائية حزينة! الفيلم مكتمل بالجمال، لكنه ليس الدليل الوحيد لما وصلنا له اليوم من بداية سباق حقيقي للسقوط بدأ واضحا من منتصف السبعينيات، لا يغفر لانفتاح (السداح مداح حسب تعبير الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين) تكور الأخلاق وانزلاقها من قمة لكي تتفتت سنة بعد سنة في قاع القاع، أيضا لمن سمح بتوغل تلك الهجمة أو العاصفة التي هبت قوية ومدعومة ومنظمة من صحراء الشرق، لا تحمل فقط أفكار الصحراء بكل جفافها لكي تسود إنما أيضا لكي تمحو ثقافة كانت تجعلنا في مصاف الحكماء وأسلوب حياة كان يغذي بهجتنا وقدرتنا علي الانتصار بالسعادة والحب والحياة، بالإضافة إلي لهجة مصرية خالصة بمفرداتها الغنية بالبساطة والعفوية . في ذكراها (منتصف السبعينيات تماما رحلت )، مازلنا نقاوم بأم كلثوم كرمز لزمن ، لكن أم كلثوم وصوت أم كلثوم وحضور أم كلثوم ومزاج أم كلثوم ومنديل أم كلثوم لن تستطيع وحدها إعادة ضبط الإنسان المصري ضبط مصنع الأحلام القديمة والقامة المفرودة والحب الحقيقي للحياة.