كتب الشاعر الغنائي الكبير حسين السيد أغنيات فيلم »العيال الطيبين« والذي شاركتني في بطولته الفنانة ميرفت أمين والأستاذ عبدالمنعم مدبولي والفنان سمير غانم وسألت الأستاذ حسين: مين تفتكر يلحن الأغنية الرومانسية »أنا إيه حكايتي«؟ منير مراد برضه ملحن أغنية تيتر الفيلم؟ قال: مفاجأة.. سأمر عليك في السابعة مساء لتذهب إلي من سيلحن الأغنية؟ وفي المساء توجهت سيارة الأستاذ حسين السيد إلي الزمالك ووقفنا أمام بناية وصعدنا إلي الطابق الثامن وفتحت الباب خادمة سمراء.. رحبت بالأستاذ حسين وبي وقالت »الأستاذ في انتظاركم«! ودخلنا غرفة تطل علي النيل وإذا بي وجها لوجه أمام الأستاذ موسيقار الأجيال كما سماه الكاتب الصحفي نبيل عصمت.. محمد عبدالوهاب. وكان الأستاذ عبدالوهاب جالسا أمام جهاز تسجيل والعود في يده ويدندن مطلع الأغنية التي كتبها حسين السيد لأغنيها أنا في الفيلم »أنا ايه حكايتي.. مالي حاسس اني تايه ليه« لم أصدق عيني.. أنا.. أمام محمد عبدالوهاب يلحن أغنية سأغنيها أنا.. أنا أكيد بأحلم!! وبعد ترحيبه بنا قال عبدالوهاب: مين اللي هاتغنيلها الأغنية دي في الفيلم يا أبوسمرة؟ قلت »ميرفت أمين يافندم«! قال: الله .. ميرفت أمين دي زي الملبسة.. اللي الواحد يحطها في بقه ويبقي مش عاوزها تدوب أبدا.. هكذا كشف عبدالوهاب عن حقيقة مشاعره تجاه ميرفت أمين التي كانت آنذاك إحدي نجمات السينما المصرية. وبدأ يغني مطلع الأغنية ويقول: »قول معايا ياحبيبي« ولكن لم أنطق.. وكرر طلبه.. ولم أنطق. قال: »مالك ياحبيبي.. فيه ايه«؟! قلت: معقول حد يغني قدام حضرتك؟ قال: أوعي تخلي حد من جمهورك يشعر انك خايف منه.. تقف علي المسرح.. تقف قدام ميكروفون.. لازم تبقي أنت المسيطر علي الموقف.. لازم أنت تبقي الأقوي.. وإلا.. تفشل.. فاهم ياحبيبي؟ وبعد خمس عشرة بروفة لم أنطق فيها أمامه.. جاء يوم التسجيل في ستديو 64 أكبر ستديوهات الإذاعة.. وجاء عبدالوهاب في موعده وفرقة موسيقية تضم 54 عازفا وكورالا منهم جمال سلامة وفاروق سلامة ورضا رجب وخالد فؤاد وأحمد الحفناوي وعظمة وعفت.. حاجة تخض! وكان التسجيل في ذلك الوقت يتم مع الفرقة في نفس الوقت وليس بطريق التراكات كما يحدث الآن.. وأصابتني حالة ذعر شديد.. كيف أغني أمام عبدالوهاب وهذه الفرقة الرائعة ماذا أفعل؟ وكان معظم أفراد الفرقة يعرفونني عندما كانوا يحضرون إلي بيت عبدالحليم لاجراء بروفاته علي أغانيه الجديدة.. (بالمناسبة أي أغنية جديدة علي الأقل عشرون بروفة يوميا مع كامل الفرقة الموسيقية بقيادة أحمد فؤاد حسن وفي ستديو 64 أكبر ستديوهات الإذاعة).. رأيت أمامي أكثر من 53 عازفا من أمهر عازفي الموسيقي في الشرق.. حضروا لتسجيل أغنية »أناإيه حكايتي« لحن موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب الذي جلس بجوار مهندس الصوت زكريا عامر يستمع إلي دوزان الفرقة ويلقي ملاحظاته: »الكمان الثالث علي الشمال.. يضبط الدوزان.. التشيللو عاوز أسمعه أكثر.. خف الأورج شوية ياجمال.. ملحوظات رهيبة تعتمد علي أذن موسيقية لا مثيل لها!! وانتابني رعب فظيع.. أنا مطلوب مني أغني أمام محمد عبدالوهاب.. طب ازاي؟ وشعر بي العازف في ذلك الوقت والمايسترو الكبير حاليا خالد فؤاد.. ونظر إلي في شفقة وقال »أنت مش هاتعرف تسجل وهو قاعد هنا مش كده«؟ قلت: طبعا. قال: خش عليه وقول أنا حاسس إني داخل علي برد.. ممكن نأجل التسجيل؟ وعملت بنصيحته.. وبعدها بخمس دقائق انصرف محمد عبدالوهاب.. وبدأنا التسجيل بدونه.. وأرسلنا الشريط للأستاذ في بيته ليستمع إليه. وبناء علي طلبه وأبدي الأستاذ اعجابه وطلب مقابلتي.. وفي المساء.. في بيته.. قال »الغناء والتمثيل واحد.. أساسه الاحساس.. الاستمتاع بالكلمة.. بالمعني.. بالحالة اللي أنت عايشها.. أوعي تنسي ده.. عيش المعني والحالة بصدق.. تصل إلي المتلقي بصدق.. فيحبها منك ويحب صدقك معه«..!! وتذكرت أول مرة شاهدت فيها الأستاذ عبدالوهاب.. عندما كنت أحضر من الإسكندرية وأنا في سنة أولي في كلية الآداب لأسجل برنامج »ركن الطفل الإنجليزي« مع لبني عبدالعزيز وبرنامج »باقة من الموسيقي والأغنيات الأجنبية« لإذاعة الشرق الأوسط والتي تديرها أستاذة الحوار الإذاعي آمال فهمي.. والتي كان لها فضل كبير في توجيهي إعلاميا ومازلت أناديها »ماما«.. المهم بعد أن سجلت برنامجي.. سمعت ان الأستاذ عبدالوهاب في ستديو 73 بالدور الرابع يجري بروفات علي المسلسل الذي سوف يذاع في رمضان »شيء من العذاب« الذي كتبه الأستاذ الكبير أحمد رجب ويخرجه ألمع مخرجي الدراما الإذاعية.. محمد علوان وهو بالمناسبة زوج الأستاذ آمال فهمي أيضا!! فتشجعت نظرا لعلاقتي بها.. وصعدت إلي الاستديو وتسللت واقفا بجوار مهندس الصوت.. ونظرت إلي داخل الاستديو حيث يجلس العملاق عبدالوهاب وبجواره المخرج محمد علوان وأمامها بنت صغيرة في السن والشكل.. سألت المهندس: »مين البنت دي«؟ قال: ممثلة صغيرة جديدة بتمثل في فرقة الريحاني اسمها نيللي أخت فيروز.. فاكرها؟ قلت: طبعا »ياسمين« و»دهب« و»معانا ريال.. ده مبلغ عال.. الخ«.. وكان المهندس يستمع إلي البروفة.. وجلست بجواره مبهورا.. بدقة الأستاذ واهتمامه بكل كلمة يقولها.. يعني مثلا.. إذا كان عليه أن يقول »مش معقول« مثلا يعني.. فوجئت ان الأستاذ يقولها أكثر من عشر مرات بطرق مختلفة ثم يقول لمهندس الصوت: سمعني كده.. ويستمع في صمت ثم يقرر »خذ رابع واحدة«.. وهكذا.. وفعلا تكون رابع واحدة هي الأحلي!! ودخل علينا شهر رمضان والأستاذ يسجل المسلسل باهتمام شديد فهي المرة الأولي والأخيرة أيضا لعبدالوهاب كممثل اذاعي أثارت ضجة شديدة وهوجم في مجلس الشعب خاصة لطريقة أداء وهمسات نيللي التي تقوم بدور مراهقة صغيرة.. هاربة من جريمة تعتقد انها ارتكبتها وتختبئ عند الأستاذ الذي يقع في حبها.. وكان الأستاذ عبدالوهاب سعيدا جدا بهذا الهجوم وسمعته يقول للأستاذ علوان: »الهجوم دائما علي الشيء الناجح«.. أنا تعرضت لنقد وهجوم شديد جدا عند عرض فيلم »رصاصة في القلب« لأني أغني »الميه تروي العطشان« وأنا في البانيو في الحمام عاري الصدر.. بل ان الأستاذ توفيق الحكيم مؤلف الفيلم أيضا هاجمني علي انني قبلت التصوير في البانيو وفي الحمام وفي نهاية الأغنية تدخل الهام حسين لتقول لي »نعيما ياسي سنسن«!! ولم أنس أبدا تلك الملحوظة من الأستاذ.. فعلا.. الناجح بس هو اللي يتشتم لأن الفاشل لا يهم أحدا.. وكان هذا هو الدرس الأول الذي تعلمته من عبقرية قاموس »الوهابيات« والذي تعلمه هو أيضا من أمير الشعراء شوقي بك.. اللي يحدفك بطوبة اوعي توطي تجيبها علشان تحدفه بيها.. أبدا.. كمل أنت طريقك.. وسيب الحاقد هو اللي يجمع الطرب.. لأنه بكده عمره ما حايحصلك..! ايه ده.. ايه الدماغ دي.. مؤسسة فنية.. ذكاء عبقري.. ملوش مثيل لسه.. »الوهابيزم« لا ينتهي.. عندي منه حكايات كثيرة وكلها زيه تحفة لأنه.. كان فعلا موسيقار وعبقري الأجيال.