عبر كل تاريخ مصر المعاصر حافظ القضاء علي قدسيته واستقلاله. وهو إن كان كما يري السياسيون والمشرعون أحد السلطات الأساسية في أي دولة فإن الحقيقة تؤكد بما لا يدع مجالاً لأي شك أنه يأتي في صدارة كل السلطات ويعلوها بما يملكه من قوة للحق والعدل أقرها المجتمع وارتضاها. غير أن مصر تعطي للقضاء دوراً مميزاً وفريداً لا أعتقد أنه موجود في أي بلد آخر. هذا الدور استمد قوته من الثقة الكبيرة واللامحدودة التي يعطيها المصريون للقضاء، والتي أكدت الأيام والأحداث والعديد من الوقائع أنها كانت في محلها تماماً. وخلال الشهور القليلة التي أعقبت ثورة الشعب المصري في 52 يناير قدم القضاء بكل رجالاته وشيوخه مثالاً حياً سوف يوثقه تاريخه الحديث بتأكيد استقلاليته وانحيازه الوحيد للعدالة والشرعية.. غير أن ما يتعرض له القضاء من جدل ونقاش عقيم من جانب بعض القوي السياسية وحفنة قليلة من الذين نصبوا أنفسهم أوصياء علي الشعب المصري واحتكار التحدث باسمه يحتاج بالفعل إلي وقفة. وقفة مع ضمير كل مصري ومصرية من أجل الذود عن محراب العدالة ورجاله الشرفاء الذين يواجهون اليوم ضغوطاً متزايدة تأخذ أشكالاً متعددة. ويأتي بالطبع في مقدمتها الضغط الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام، الذي يبدأ بنشر أخبار ومعلومات وتحقيقات لا تستند إلي الحقيقة بأي حال من الأحوال أو التشكيك في بعض رجال القضاء ومؤسساته. إن السباق الرهيب بين بعض الفضائيات في تتبع سير التحقيقات والقضايا يخرج في كثير من الأحيان عن مهنية الأداء الإعلامي حيث يتم التعرض لسير المحاكمات والتحقيقات بما يمثل في كثير من الأحيان اعتداءً علي حقوق العدالة ومحاولة للتأثير والشحن، ندرك تماماً أنها لم ولن تنال من تجرد رجال التحقيق والقضاء وسعيهم الدائم لتحقيق العدالة وإقرار الحقوق. كما أن التعرض الواسع في وسائل الإعلام لبعض القضايا التي لها علاقة بالأموال المصرية في الخارج قد يضفي علي الأحكام جانباً من التشكك من قبل الجهات الخارجية لأنها تتم بضغط من الرأي العام. أعرف وأدرك أن المظلوم يتلهف إلي سرعة القصاص ولكن مطالب البعض بالمحاكمات السريعة والعاجلة تتناقض مع أبسط مباديء العدالة لأنها في الحقيقة لا تعرف البطء أو السرعة ولكنها تخضع لمعايير قانونية بحتة، يسمو ويعلو فيها ضمير القاضي علي كل شيء ابتغاء تحقيق العدالة ورقيبه الوحيد هو الله سبحانه وتعالي وليس البشر أياً كانوا. يحدث ذلك علي الرغم من سعي كل الجهات القضائية لإعلان الحقائق كاملة أولاً بأول، لكن يبدو جلياً أن السباق المحموم يجعل البعض يغفل حقيقة خطورة التناول الإعلامي لأي قضايا معروضة أمام القضاء ولم تصدر بشأنها أي معلومات من الجهات صاحبة الاختصاص وبالطبع مع احترام مبدأ الخصوصية وحق النشر والذين يبدو أنهما متعارضين نتيجة سوء استخدام الحق الأخير.
ويأتي في مقدمتها أيضاً إزالة كل القيود التي تحد من استقلالية القضاء وأقصد بها القيود التي قد تحملها العلاقة بين وزارة العدل والقضاة، التي يجب أن تقتصر فقط علي تهيئة المناخ لعدالة ناجزة والدفاع عن الحقوق المادية للقضاة وتذويب الفوارق الكبيرة بين دخول القضاة في مختلف أجهزة البحث والتحقيق وإصدار الأحكام.. وأذكر أنني التقيت في واشنطن مع أحد قضاة المحكمة الفيدرالية العليا وعرفت منه أنه لا يتقاضي راتباً من الدولة ولكنه يحمل دفتراً للشيكات تصرفه الحكومة الفيدرالية لكل رؤساء الهيئات القضائية وكبار المسئولين فيها، ويستطيع القاضي بموجبه أن يصرف وينفق علي كل احتياجاته اليومية بما فيها العلاج ولا تستخدم هذه الشيكات لشراء العقارات إلا في حدود خاصة. وخلاصة الحديث أن القضاة يحددون مرتباتهم بأنفسهم. وأعتقد أن الأعباء الضخمة الواقعة علي السلطة القضائية بكل أجهزتها تمثل ظروفاً استثنائية للعمل تتطلب إنصافاً يعوض الجهد الخارق الذي يقومون به.
يأتي أيضاً في مقدمتها الحفاظ علي هيبة القضاء، والقضاء هنا لا يعني البشر فقط ولكنه يعني مجمل الممارسة القضائية وبكل مراحلها ومازلت أذكر أحد أقاربي في بداية عمله بالنيابة فترة السبعينيات عندما كان يمر من الشارع الرئيسي بمدينتي شبين الكوم وكيف كان كل الناس يقابلونه بالاحترام والرهبة والتوقير والإجلال وهي المظاهر التي كانت ترفرف أيضاً علي ساحات العدالة وفي كل المحاكم، ولا شك أنه بمقارنة سريعة مع ما تشهده بعض المحاكم اليوم من غياب أمني وقصور شديد في تأمين القضاة وحمايتهم يؤكد ضرورة وجود شرطة خاصة تتبع القضاء وبقانون خاص تشدد فيه العقوبات ضد أي اعتداء علي حرمة المحاكم أو رجالاتها الاجلاء. تضيق السطور التي لا تكفي لاستعراض بعض الضغوط التي يتعرض لها قضاء مصر الشامخ، ولعلي أنتقي منها شيئاً تنفرد به مصر عن كل دول العالم وهو الشكوي والسهولة والبساطة التي يتم بها اللجوء للقضاء في أمور ومشاكل كان الأولي بها أن تجد طريقاً للحل بعيداً عن الهموم والأثقال التي تئن منها رولات المحاكم والتي تشكل عبئاً مضاعفاً وإجهاداً لا مثيل له لقضاة مصر وأعتقد أن وجود غرامات مالية عن الشكاوي الكيدية وغير الصحيحة قد يمثل جزءاً من حل مشاكل القضاء المثقل.. إننا نحمل القضاء فوق طاقته وألسنتنا تلوك دائماً عبارة »روح ارفع قضية!!«. وتبقي حقيقة.. إن إنصاف قضاة مصر الأجلاء يعني إنصافاً لكل المصريين وتحقيق العدالة الناجزة.