ا ن ما يميز ثورة الإنسان عن ثورة الحيوان أن الإنسان تكون له ثورة فكرية تتلو ثورته العضوية؛ فالحيوان يثور عضوياً إذا ما تم الضغط عليه فوق طاقته، وقد يقتل من يثيره ولكنه لا يفكر في الأسباب، أما الإنسان فيهدأ بعد الثورة العضوية ليبحث في أسباب ثورته وكيفية علاجها، فإن لم يفعل ذلك فلا قيمة لثورته؛ فسبق وأطاحت ثورة يوليو بالنظام الملكي، وفاضت الصحف وقتها بألوان من فساد العهد البائد، ولكن لم يفكر الثوار في كيفية منع الفساد فيما بعد الثورة؛ فقام مَن خَلَفهم بالسطو علي إنجازات الشعب، ونهب ثرواته.. والآن، وبعد ثورة يناير، لو سألنا الرجل العادي عن سبب الفساد، لقال : "إن المال السائب يعلم السرقة، ومال سائب يعني: ليس له من يحميه ويدافع عنه ".. فلن نكون في ثورة إنسانية إلا إذا بدأنا نفكر في كيفية منع نزيف شريان ثرواتنا؛ فأنت إذا ما أُسنِد إليك معالجة انفجار أنبوب مياه مثلا، فلابد أن تبدأ بسد القطع الذي تتدفق منه المياه، وقطع شريان ثرواتنا إنما يتمثل في تغييب سلطات هيئة قضايا الدولة التي تجعل منها الصمام الذي يمنع الفساد، فلا ثورة حقيقية إلا إذا تركزت كل الحوارات علي ثورة تصحيح لسلطات الهيئة تمكنها من منع الفساد، وقد سُئل مسئول تركي عن سبب تقدمهم، فقال : "لأننا منعنا الفساد في كل المجالات".. ومنع الفساد لن يكون إلا عن طريق الهيئة القضائية صاحبة الإدعاء العام عن الدولة، ولكن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم، ويبدو أن الله لازال يحول بيننا وبين قلوبنا؛ فرغم أن لمسألة منع الفساد حلا بسيطا جدا إلا أن الله يحول بين قومنا وبين قلوبهم، فلا ينطقون بالحل وهو علي ألسنتهم، فحل المشكلة ليس بإنشاء محكمة لمحاكمة الوزراء ..مثلا.. كما يقول البعض، ولكن الحل إنما يكمن في النظر إلي الهيئة صاحبة الدعوي وهي موجودة وعلي أعلي قدر من الكفاءة والمسألة لا تحتاج سوي عملية وصل بين هيئة قضايا الدولة وبين واقعات الفساد، فيصدر قانون يجعل يد الهيئة تطول وقائع الفساد لتستعمل بشأنها الدعوي المناسبة من بين عموم الدعاوي التي تختص بها؛ فعلي أجهزة الرقابة أن تلقي تقارير الفساد عند أعتاب الهيئة وتترك لها اتخاذ الإجراء القضائي المناسب للحماية.. فخلو التجمعات الشعبية، ومؤتمري الوفاق، والحوار الوطني، وجلسات مجلسي الوزراء، والأعلي للقوات المسلحة، من مناقشة القطع في شريان ثروات الوطن وما إذا كانت له الأولوية في المعالجة أم لا وكم تصبر مصر علي معدل نزف الأموال، وما إذا كانت هيئة قضايا الدولة المختصة بمحاربة الفساد أم لا، وهل تلغي الهيئة إذا ما كانت غير المعنية بذلك، أم يتم البسط في سلطانها إن كانت هي المعنية.. خلو الحوارات من ذلك يكشف أن الشعب مازال في الثورة العضوية، وهو أمر مقلق للغاية؛ لأن تجربتنا السابقة عن ثورة يوليو تكشف أن مرحلة الثورة العضوية فيها لاتزال ممتدة حتي اليوم خاصة بالنسبة إلي مسألة الدفاع عن الدولة- فلم تتناول الثورة تفعيل سلطة حماية الدولة؛ واستهوي الحكام إغراءات الحكم بروح التحكم العسكري الذي يستنكف من وجود سلطة لمحاسبته وحماية الدولة ضده .. فما كان إلا مانحن فيه الآن من فساد.. فالسؤال الذي لا يجوز أن يخلو أي محفل ثوري من مناقشته الآن, ينبغي أن يهدف إلي تحديد أوجه القصور في الدفاع عن الدولة الذي أدي الي وقوع هذا الكم المخيف من الفساد، ويهدف إلي إحداث ثورة تصحيح لمسار العمل بهيئة قضايا الدولة؛ لأن ثورة التصحيح هذه هي السبيل الوحيد لوقف نزيف شريان الثروات، لكن للأسف لم نجد من يفكر في ذلك.. ونجد القوم يسكتون عن ذلك تماما.. ويدور حديثهم حول مسائل بعيدة عن هدف الثورة الأساسي, بل وجدنا الفئة التي كانت تشكل البطانات التي طيبت المناخ لنظام الحكم السابق لينهب أموال الدولة، عن طريق ما كانوا ينادون به من تحجيم هيئة قضايا الدولة، هي التي تتصدر الوجوه ؛ فإن معني ذلك أننا لم نع الدرس بعد، ولم نفكر في منع الفساد ولا بحث أسبابه؛ وهو ما يعني أن ثورة 25 يناير لاتزال في طور الثورة العضوية، ولانزال في انتظار البدء في التفكير بالعقل والمنطق وتدقيق وتحديد الأهداف، وإلا سيتكرر ما حدث لثورة يوليو، ويأتي فرعون جديد يلتهم كل ماقد نحققه من إنجازات .