نجحت المدينة القابعة علي شاطئ البحر الأحمر أن تكون محط الأنظار، وتحولت إلي قبلة لنجوم وصناع السينما العربية والعالمية، وسواء اتفقنا أواختلفنا علي بعض المظاهر والمواقف، فلا يمكن إغفال أن مهرجان "الجونة" السينمائي استطاع منذ لحظة ميلاده أن يعيد مصر إلي الصدارة علي خريطة المهرجانات العربية، ويقتنص مكانة مميزة علي الساحة السينمائية الدولية، ويضخ دماء شابة في شرايين صناعة السينما، ويشعل بريق أضوائها بعد أن خفتت طوال أعوام مضت، سحبت خلالها دول عربية السجادة الحمراء من تحت أقدام مهرجان القاهرة السينمائي العريق، وتركته يغط تحت مياه آسنة من المشاكل والصراعات. تمخضت المدينة الصغيرة، فأنجبت حلما عملاقا، يدرك القائمون عليه كيف يصنعون مهرجانا سينمائيا، يحمل فوق أعناقه رسالة وهدفا وفكرا ومعني، مهرجان يحمل روح الشباب والبهجة والفن والجمال، ويعكس صورة ساحرة وجذابة لمصر، مهرجان يتحدث لغة تفهمها شعوب العالم أجمع، لغة الفن السابع التي لا تعترف بحدود الأوطان، ولا ترضخ لقواعد الزمن، لتبقي وحدها محلقة في سماء الوجدان البشري، تبحث عن شاطئ علي ضفاف ضمير إنساني مازال حيا!! لقد توقفت أمام كلمة نجيب ساويرس، حينما وصف فيلم المخرج المصري أبوبكر شوقي "يوم الدين" بأنه خير ما يمثل شعار المهرجان، "سينما من أجل الإنسانية"، هكذا اختار القائمون شعار مهرجانهم الوليد، وهكذا اصطفوا أفلامهم التي تنبض باسم الإنسان، وتنحاز له في كل مكان وزمان، أفلام صنعها مبدعون منشغلون بالمواطن وحياته، أوجاعه وأحلامه، همومه وطموحاته، إخفاقاته وانتصاراته علي ذاته، وهكذا جاء أيضا تكريم حكيم الجيل المتأمل في الذات البشرية، المخرج المبدع داود عبد السيد صاحب الرسائل الإنسانية والروائع السينمائية، وتكريم سلفستر ستالوني نجم الأكشن الممزوج بالإنسانية. ويحسب أيضا للمهرجان الاحتفاء بمرور 10 سنوات علي رحيل المخرج العالمي يوسف شاهين، ليس فقط من خلال عرض أحد أفلامه التي يحفظها عشاق السينما عن ظهر قلب، وإنما من خلال عنصر من أهم العناصر السينمائية التي تمنح الفيلم ديمومته الزمنية، وهي "الموسيقي التصويرية" أوبالأحري "السيناريوالموسيقي"، والذي كان المخرج الكبير مولعا به، ويمنحه خصوصية وأهمية قصوي في أفلامه، ويتفرد في توظيفه دراميا ليضيف أبعادا استثنائية للصورة المرئية وللجوالعام للفيلم، فرغم أنه كان يعاني من ضعف في السمع إلا أنه كان شديد الحساسية للموسيقي. وأذكر أن الفنان نور الشريف روي لي كيف اتصل به شاهين في الثالثة من صباح أحد الأيام، وطلب منه الحضور فورا لمنزله لأمر هام، وتصور النجم الكبير أن هناك مشكلة خطيرة متعلقة بفيلم "حدوتة مصرية" الذي كان يجري تصويره آنذاك، وحين وصل مفزوعا وجده يحتضن أسطوانة موسيقية والسعادة تملأ وجهه، ويبلغه أنه عثر علي الموسيقي المصاحبة لأحد أهم مشاهد الفيلم الرئيسية، فسقط نور الشرف فوق المقعد وهويتنفس الصعداء! إقامة الحفل الموسيقي كان مجرد خاطر يراود المخرجة ماريان خوري ابنة شقيقة المخرج يوسف شاهين، حاولت تجسيده من خلال مهرجان كان السينمائي، إلا أن الميزانية حالت بين تحقيق هذا الحلم، الذي جعل موسيقي أفلام شاهين تسمع منفصلة، مثلما حدث مع أفلام مثل "الأب الروحي" و"زوربا" و"رجل وامرأة"، وعشرات من الأفلام التي قامت الشركات العالمية بطبعها وتوزيعها. وأستطيع القول من خلال متابعتي لبرامج الأفلام، أن هناك مجموعة كبيرة من الأعمال السينمائية العالمية التي حازت علي جوائز في مهرجانات كبري، وإذا كان المهرجان لديه طموحات غير محدودة، وقدرات علي تحقيق تلك الطموحات -مثلما قال الناقد انتشال التميمي مدير المهرجان-فإنني أطالبه بأن تتسع تلك الطموحات لتشمل المواطن المصري، وأن يقوم بتطوير أماكن عروض الأفلام بحيث تسمح لعشاق الفن السابع بمشاهدة أفلام المهرجان، ولا تظل قاصرة علي ضيوف وزوار مدينة الجونة. أعلم أن إدارة المهرجان تضع نصب أعينها صورة مصر في الخارج، وتسعي لإيصال رسالة تعكس ما تتمتع به من حب ودفء وأمن وسلام، لكنني أتمني أن تتسع الرؤي في الدورة القادمة، لتشمل برامج عروض تتيح فرصة مشاهدة أوسع للجمهور المصري، خاصة وأن أساليب العرض السينمائي تطورت وصارت تسمح بعرض الفيلم في أكثر من مكان في آن واحد، حتي يصبح شعار المهرجان: "سينما من أجل الإنسانية.. ومهرجان من أجل المواطن". إن النجاح الذي تحقق لا تخطؤه عين منصفة، لكن حالة البذخ والبهرجة والتسابق الاستعراضي بين النجمات علي الظهور بمجوهرات وفساتين مكشوفة لأشهر بيوت الأزياء في العالم، جعل البعض يتخذ موقفا معاديا من المهرجان، ويشعر بالغربة والانفصام معه، ويعتبرونه مهرجان الأغنياء فقط! وبعيدا عن انتقادات السوشيال ميديا، فقد أسعدني رؤية هذا النجاح والتميز الذي تحقق في مهرجان علي أرض بلدي، بكوادر وعقول وطاقات وأموال مصرية، بعدما ظللت طويلا أشعر بالآسي والحزن علي ما وصل إليه مهرجان هوليوود الشرق، والذي أتوقع له انطلاقة قوية مع رئيسه الجديد المبدع محمد حفظي عاشق السينما.