الأديان علي حق في الإيمان بأن علاقتنا بالخالق جل شأنه لا تنفصل بإيجادنا .. فمن المحال أن تقع حياتنا الدنيا تمامًا تحت سيطرة إرادتنا واختيارنا .. وهوما لا ينازع فيه أصحاب علوم الطب والحياة وعلوم الأحياء والطبيعة الحية .. فتسعة أعشار أجهزة الحياة فينا غير خاضعة للوعي والمشيئة . والعقل والوعي والإرادة تساعدنا علي الحياة، لكنها بذاتها لا تكفل الاستمرار إلاَّ بأجهزتنا غير الإرادية المركبة في كل منا، والتي زودنا بها الخالق عز وجل، وضمن بتدبيره لها، وحسب هذا التدبير، وبأدائها وصلاحيتها َضمِنَ توفير السبل والأسباب لبناء الحياة ونموها، العمر المتاح لها في حياتنا الدنيا ! لا يغفل المريد عمن جعل لحياته معني، ولأيامه وأنفاسه أمدًا، ومن كل ما سواه بد، بينما لا بد له منه .
معرفتنا للقيمة الحقيقية لعقولنا تنقذنا بحدودها وتنقذ البشرية من توالي الانكماش والاسترخاء في البساطة والسذاجة اللتين نتخبط فيهما حتي الآن .. إذ عموم البشر كانوا ومازالوا إلي أمد غير قصير سطحيين جدا .. لا يفارقون شهواتهم وأهواءهم ومصالح كل منهم .. ولا يفارقون مطامعهم وأمانيهم ثم أحقادهم ومخاوفهم ومصائبهم ونكباتهم حينما يشعرون بوطأتها ومراراتها ودمارها الذي لم يحسبوا حسابه في حينه . هذا الحساب الذي لا توقظ بداياته في حينها بوادره لدي الغني أوالفقير !
الرجاء تطلُّع ملازم لحياة الآدمي الواعية .. فهو دائم الرجاء في أحوال أفضل في الدنيا أو في الآخرة . حتي المنتحر لا يخلو من أمل في الراحة من حياة لم يعد يحتملها، ويطمع في غفران ما وقع فيه .. والفدائي يقدم علي الموت وهويأمل في المجد وحسن الأحدوثة . لا ينقطع الرجاء من صفحة وجدان الآدمي ما دام حيّاً !
رضاء أي نبي من الأنبياء هو رضاء غريزي بخصوصية عالمه .. وهوعالم يختلف فيه عن عالم الناس العاديين .. والنبوة هي تطور ونموهذا العالم الخاص إلي حد الإفاضة والتفجر .. إنها فيضان نهر يتجاوز ماؤه مجراه وضفتيه فيغمر الأرض بعدهما إلي أقصي ما عنده فتصبح كأنها جزء منه، لكنها لا تزال أرضًا وهو لا يزال نهرًا .. لقد ارتوت الأرض وأخصبت وفق طبيعتها، والنهر قد فاض وتدفق وتخلص من زائد طاقته وفق قدره .. فقياس رضاء النهر عن نصيبه وعالمه برضاء الأرض عن نصيبها وعالمها قياس غير دقيق يستدعي التوقف وإعادة النظر !
لا يجد مشقةً في ترك المألوفات والعادات، إلاّ من تركها لغير الله . فأما من تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله فإنه لا يجد في تركها مشقة، وإن صبر عليها استحالت لذة !
أخسر الناس صفقة، من اشتغل بنفسه عن الله، وأخسر منه من اشتغل عن الله بالناس !
أحكامنا البشرية علي الناس والأخلاق والأحداث داخلة حتما في تكوين أفكارنا ومعتقداتنا، وداخلة أيضًا في تغيرها بتغير الأحوال والظروف والأزمنة والأمكنة .. وذلك التيار البشري لا ينقطع قط في محيط الآدميين الدائم التقلب والتغير والتموج والتقدم والتراجع والتأخر .. هذا التيار ليس له ولا يمكن أن يكون له نظير لدي الخالق جل شأنه .. سبحانه وتعالي القائل في قرآنه المجيد .. » رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ » .
رحاب خيال الحي وتصوره وظنه، تعيش المعتقدات وتزول، ويصحوالوعي وينام، وينموالعقل ويخبو، وتتماسك الأعراف والعادات والأخلاق وتتفكك، وتزدهر العلوم والفنون وتذبل، وتنشط الهمم وتهبط، وتضحك الأيام وتبكي وتشرق وتعبس وفي نفس الرحاب يتداول علي البشر السعة والضيق، والجلد والصبر، والثبات والرعونة والخفة والقلق، وفي تلك الرحاب يتبادل البشر ويتداولون مع السعة والضيق والجلد والصبر والثبات مع الرعونة والقلق والخفة، والتوسط والاعتدال، والحكمة مع التطرف والاندفاع والحماقة، والرخاء مع الشقاء .. حياة الآدمي من بدايتها إلي نهايتها تَعَب وكفاح لا ينقطع بين قدراته وظروف وتقلبات الحياة !
إلي اليوم يبالغ البشر في أصواتهم التي لا يبالي بها فيما يبدوسواهم .. هذه الأصوات التي تلازم حركاتهم غالبًا وتدعوإلي ارتفاع الأصوات لداع وغير داع، كما تجتذب مطربيهم وأشباههم معهم إلي تحسينها أحيانًا كلامًا وأحيانًا أخري ألحانًا .. كما تدفع خوفهم وهياجهم وسخطهم وضجيجهم وثورتهم إلي آفاق متتابعة من العلو والصخب والغليان والهياج غير المفهوم مما لا يلتفت إليه حيوان أو نبات ولا يبالي به علي الإطلاق فضاء أو كون !
إلي يومنا هذا لم ينتظم مسلك أي آدمي انتظاما صحيحًا مطردا ملتزمًا .. لا بد أن يخطو الآدمي كثيرًا وكثيرًا جدًا وأحيانا معظم حياته إلي أن يفارقها، وذلك قبل أن يحسن التفكير ويلتزم صفاء العقل وعدم إذلاله واستعباده بالاستسلام للعواطف والرغاب والشهوات التي تركب أنا الآدمي في غالب أوقاته وحالاته .. هذه الرغبة الجامحة التي تتفوق باستمرار علي قدرة عقله بقوة العاطفة والشهوة .. وهذا ما زال جاريًا الآن كما كان جاريًا في قديم الزمان، بفضل هاتين القوتين الدائبتين المنحدرتين دائمًا إلي الهوي المحض والطمع الأناني !
معرفة الله سبحانه نوعان : معرفة إقرار، وهي التي يشترك فيها عامة الناس البر والفاجر والمطيع والعاصي . ومعرفة الخاصة، وهي توجب الحياء منه والمحبة له وتعلق القلب به والشوق إلي لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار إليه . ولهذه المعرفة بابان واسعان : باب التفكر والتأمل في آيات القرآن والفهم الخاص عن الله ورسوله . وباب التفكر في آياته المشهودة وتأمل حكمته سبحانه فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط علي خلقه .
تتفق منظومات الأخلاق، وضوابط القانون، مع دعوة الأديان بعامة للعدل والإنصاف .. ومع ذلك فالمتأمل في أحوال الناس يلاحظ أن معظمهم لم يستطع للآن إقناع نفسه بأن العدل قيمة مطلقة، وأنه يتلخص في الإقرار والاعتراف بحقوق الآخرين واحترامها والكف عن التعدي عليها أو الطمع فيها .. وأن هذا الاحترام واجب مهما كانت إغراءات الاستقواء بالمال أو بالقوة أو المكانة أو الجاه أو المنصب أو القدرة أو السلطان .. وبغض النظر عن الفوارق في المكانة أو الأهمية بين الناس بعضهم البعض !
العاصي النادم خير من الطائع المدعي .. فالعاصي يطلب طريق توبته ويعترف بنقصه، والمدعي يتخبط في حبال دعواه .
إن المبادئ العامة ليست حقائق أبدية، ويستحيل أن تكون، لأن البشر كأحياء أبناء الزمان والمكان، يستحسنون ويتبعون أحكاما جرت بها العادة علي نحو فيه توافق ونظام وثبات لايمنع من حلول مبادئ محل مبادئ باتت قديمة في نظر الجيل الجديد، وهذه إحدي ظواهر الحياة الصائرة الدائبة ما بقيت علي التغير نموًّا وتأخرًا دون جمود كامل، لأن هذه الحركة والتغير في ذلك الكون الصائر دائمًا، هي علامة الحياة في الأحياء، بل هي الحياة نفسها التي لا ينبغي لوعي وأعماق الآدمي أن ينصرفا عن فهمها وفهم ما يمور ويموج فيها !
قد يبدو أن القدرة علي التخيل والخيال والتصور والظن هي أوسع قدرات الآدمي علي الإطلاق، فهي أوسع من الوعي ومن العقل ومن العاطفة ومن الذاكرة ومن الحركة والسكون ومن اليقظة والنوم ومن الفضيلة والرذيلة ومن الحق والباطل ومن الخير والشر، وهي أوسع من الشعور بالذات وبالعمر وبالماضي والحاضر والمستقبل والكون كله في قديمه بالنسبة لنا وحديثه !
سبحان الخالق عزّ وجل . مالك الملك والملكوت .. أزمّة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، ومردّها إليه . لا تخفي عليه خافية في أقطار ملكه . لا في الأرض ولا في السماء . يعلم سر عباده وعلانيتهم . سبحانه المتفرد بتدبير ملكه يسمع ويري، يعطي ويمنع، يثيب ويعاقب، يكرم ويهين، يخلق ويرزق، يميت ويحيي، ويقدر ويقضي ويدير الأمور نازلة من عنده وصاعدة إليه، لا تتحرك ذرة إلاَّ بإذنه وعلمه .