منذ انطلقت الحركة الوطنية بين شعوب العالم الثالث للتحرر من الاستعمار ونجاح القيادات الوطنية في اعتلاء سلطة الحكم في بلادها، سعت دول المركز الاستعماري للمحافظة علي مصالحها في مستعمراتها القديمة بمختلف الوسائل في مقدمتها المعونات الاقتصادية كما هو معروف، والعمل علي احتواء الزعامات الوطنية بمختلف وسائل الإغراء لكي تطويها تحت جناحها ومن ثم تحقق مصالحها بأيدي أولئك الوطنيين أنفسهم وتلك قمة المأساة. وقد ساعدهم علي النجاح في ذلك الاحتواء استجابة بعض تلك القيادات لخطاب الإغراء دون وعي فانتهي الأمر بهم وببلادهم إلي الوقوع في قبضة الامبريالية الجديدة، إلا جمال عبد الناصر الذي عجز الغرب عن احتوائه فنال غضبهم. لقد كان الرجل يعي أساليب الاحتواء ويفهم لغة الغرب الناعمة للوصول إلي هدفه حتي لقد كان يقول: إذا أعدائي اللي أنا عارف إنهم أعدائي مدحوني.. فمعناه إني ماشي غلط.. وطول ما بيشتموني فمعناه إني ماشي صح. والمعني أن المديح مكافأة علي الاستمرار في السياسة الموالية لأولئك الأعداء.. والعكس صحيح. وكان يستمع يوميا إلي نشرة أخبار الإذاعة البريطانية باللغة العربية.. فإذا ما انتقدوه اطمأن علي سلامة طريقه وإذا لم ينتقدوه، بحث عن الخطأ الذي ارتكبه. وفي هذا الخصوص لنا أن نتأمل بعض كلماته الكاشفة لخطاب الإغراء والاحتواء والابتزاز.. فعندما أوقفت أمريكا مباحثات حصول مصر علي القمح (21 ديسمبر 1964) قال بعد يومين وفي مناسبة الاحتفال بعيد النصر (23 ديسمبر): »نحن لا نبيع استقلالنا من أجل القمح.. وإن المساعدات الأمريكية لا تعطي الحق لأمريكا لتفرض سياستها علي مصر.. واللي مش عاجبه كلامنا يشرب من البحر.. وإذا كان البحر الأبيض لا يكفيه.. قدامه البحر الأحمر كمان». وفي 14 أبريل 1966 قال: إننا لم نعد نريد قمحا أمريكيا طالما كان المقابل تمرير صفقات سلاح لإسرائيل». وكل الحكاية أن عبد الناصر لم يسمح لخصومه أن يبتزوه، ولم يسمح لنفسه أن يخضع لكلمات الإغراء وعبارات المديح الجوفاء، وجاءت قوته هذه من استقامته.. فلم يطرأ علي نمط معيشته في المأكل والملبس أي تغيير بعد رئاسته. وعندما اقترح البعض تعيينه رئيسا مدي الحياة رفض الاسترسال في هذا الحديث إذ أدرك روح النفاق وراء الاقتراح، وعندما سعي البعض لإقامة قرية بني مر بشكل نموذجي، رفض وقال: يجب أن نبني أولا خمسة آلاف قرية نموذجية في مصر وبعدها يأتي الدور علي بني مر، وهي إشارة لعدد القري المصرية آنذاك. وتلقي ملايين الجنيهات باسمه من شخصيات علي سبيل التبرع ففتح حسابا جاريا بالبنك الأهلي تودع فيه هذه التبرعات، واستخدمها للصالح العام في شكل تبرعات، مثل التبرع لاستكمال بناء مسجد منشية البكري بعد أن عجزت الجمعية الخيرية التي تبنيه عن استكماله. وعندما مات كان في هذا الحساب مليونين ونصف مليون جنيه بينما بلغ حسابه الخاص 610 جنيهات مصرية. ومن مظاهر استقامته أنه كان يدخن السيجارة الإنجليزية دانهل Dunhill فلما بدأت علاقاته تتأزم مع إنجلترا وجد أنه من العيب أن يظل يدخن تلك السيجارة. ويبدو أنه صارح بعض المقربين بتلك المشاعر ولهذا تم إنتاج سيجارة مصرية باسم »كليوباتره» لتكون بديلا، اعتزازا بموقفه حتي لا يقول له أحد كيف تهاجم إنجلترا وتدخن سيجارة إنجليزية ؟. ولم يكن متطرفا ذات اليمين أو ذات اليسار بل كان وسطيا معتدلا بتأثير مناخ مصر المعتدل شأن طبيعة غالبية المصريين، وحمل في وجدانه ميراث التدين الذي تبلور عند المصريين القدماء من حيث الإيمان بالغيب. ومن هنا كانت الرحمة والبر والعطف من خصاله، وهي التي كانت وراء سعيه لرفع الظلم والمعاناة التي رآها بنفسه بين الفلاحين في القري وأهل الحارة في المدن.. فكان تعديل أحوال الفلاحين بالإصلاح الزراعي، وتعديل أحوال العمال بالقوانين التي تمنع الفصل التعسفي وتأمين حياتهم، ورعاية الموظفين بتخفيض إيجارات المساكن.. إلخ. ولا يمكن لأحد كائنا ما كان أن يزايد علي إخلاص عبد الناصر، ووطنيته، والتزامه بقضايا أمته.. ولما فشل أعداؤه في احتوائه لم يكن أمامهم إلا التخلص منه. وشهد له الجميع بأنه ضد الاختراق أو الاحتواء.. فمنذ وفاته وحتي أيامنا هذه لا يجد المناضلون ضد الهيمنة الغربية والمطالبون بالعدالة الاجتماعية، إلا صورته يرفعونها في مظاهراتهم. ومع ذلك لا يزال عبد الناصر يتعرض لحملة ضارية تريد أن تزيل صورته من قلوب الذين أحبوه.. فمنذ مطلع سبعينيات القرن الماضي ولا حديث لخصومه وأعدائه إلا القول أن عبد الناصر كان حاكما ديكتاتوريا أخذ أموال الأغنياء، ولم يحقق الديمقراطية التي وضعها كأحد أهداف الثورة الستة. وهذا تزييف حقيقي لوقائع التاريخ فلم يسأل هؤلاء الأغنياء أنفسهم من أين أتوا بهذا المال.. كما أنهم لا يرون في تمثيل العمال والفلاحين بنسبة 50% في الهيئة التشريعية (مجلس الأمة) وفي التنظيم السياسي أية ديمقراطية.. فالديمقراطية في رأيهم لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود الباشوات والبكوات، وغفلوا عن وجود الرأسمالية »الوطنية» في الهيئة التشريعية منذ أول مجلس أمة في 1957، وفي التنظيم السياسي (الاتحاد الاشتراكي) بعد إنشاء القطاع العام كإحدي قوي تحالف الشعب العامل، لكنها رأسمالية غير مستغلة لأنها تخضع لسيطرة الدولة ممثلة في القطاع العام فيما يتعلق بالأجور والأسعار وقوانين العمل. لكن كدابين الزفة الذين قفزوا من مركب جمال عبد الناصر حال وفاته وتعلقوا بمركب الثورة المضادة، وأصبحوا من »حملة المباخر» للعهود التالية، يحلوا لهم في تفسير الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي أصبحت تشهدها مصر منذ رحيل ناصر أن يقولوا »إن هذه الأزمة أو تلك تعود إلي ثورة يوليو. ولكن هيهات.. فالجيل الذي عاش تحت رعاية جمال عبد الناصر وشعر بكرامته نقل إلي أبنائه دروس الحقبة الناصرية.. ولهذا فكلما رأوا مصر تتراجع عن دورها الإقليمي والعالمي تذكروا عبد الناصر.. وكلما رأوا عجز الطبقة الوسطي عن الصمود أمام استغلال الأغنياء الجدد ترحموا علي الزعيم الذي قام بالثورة من أجلهم. وقد فشل هؤلاء الخصوم في إهالة التراب علي سيرة الزعيم أو نزع صورته من قلوب محبيه رغم كل محاولاتهم المستميتة سنين عددا. في سبتمبر 2001 كنت في باماكو عاصمة جمهورية مالي غرب أفريقيا أحضر مؤتمر اتحاد المؤرخين الأفارقة. وعند بداية المؤتمر كان المشاركون يتعرفون علي بعضهم بعضا وسألني أحد الأساتذة هناك عن بلدي فقلت له: أنا من مصر.. فقال: مصر.. جمال عبد الناصر.