لا يمكنني أن أتخيل أعظم الصحفيين المصريين، وبالتأكيد الكاتب الأكثر شهرة في الشرق الأوسط، من دون دخان سيجاره الكوبي يتحرك أمام وجهه القوي. هو مستشار جمال عبد الناصر الأول، ورئيس تحرير صحيفة الأهرام، وقت أن كانت إحدى أعظم الجرائد العربية، والناطق بلسان الحكومة.. محمد حسنين هيكل، الكاتب لأهم المؤلفات عن تاريخ الشرق الأوسط، والمؤرخ لأوراق وملفات ناصر الشخصية. يصف أصدقاء هيكل انتقاداته الحادة لنظام مبارك ب«اللاذعة». ولكن «مدمرة» ربما يكون الوصف الأنسب، وأستطيع أن أرى الرئيس المصري حسني مبارك - الذي يقرأ الاندبندنت - مندهشاً وهو يقرأ الفقرة التالية. يقول هيكل إن «الرئيس مبارك يعيش في عالم خيالي في شرم الشيخ، دعونا نواجه الأمر، هذا الرجل لم يعتد أبداً على السياسة، لقد أصبح سياسياً في عمر ال55 عندما اختاره السادات ليكون نائبه قبل أن يتم اغتياله»، ويضيف "نعم مبارك طيار ممتاز وكان قائد القوات الجوية، ولكن البدء في السياسة بعمر ال55 أمر يتطلب مجهود كبير". كان حلمه حياته أن يصبح سفيراً، أن يكون واحداً من «أصحاب السعادة والمعالي»، الآن مضى عليه في مقعد الرئيس 25 عاماً، وهو يقارب الثمانين، ولا يزال لا يستطيع أن يتحمل أعباء الدولة»، لقد ذكرت هيكل بهذا، إنه وقبل فترة قصيرة من اغتياله في العرض العسكري بالقاهرة، اعتقله السادات لأنه خطر على الدولة، وبعدها أطلق الرئيس مبارك سراحه. ولم يتوقف هيكل عن مديح وشكر الرجل الذي يدين له بحريته، قابلت هيكل بعد إطلاق سراحه من السجن يختلي بعائلته في غرفة بفندق الميريديان، كان نحيلاً وضائعاً، ملابسه قد أصبحت واسعة جداً عليه، بعد أسابيع قضاها في زنزانة مظلمة، إلى جوار الإسلاميين واللصوص، كان مبارك شعاع ضوء بالنسبة له وقتها، رمزاً لمصر الجديدة، الرجل الذي أطلق سراحه من الأسر. ويقول هيكل «وقتها كنت أظن أنه – أي مبارك- قد تعلم الدرس». ويضيف « أقول هذا لأنه كان إلى جوار السادات لحظة اغتياله، ولكنه إذا كان هناك شيئاً ليضعه في حسبانه أكثر من أي شيء آخر، فإن هذه الحادثة لم تعلمه سوى أن يحافظ على "الأمن". وبالتأكيد فعل؛ فقاب قوسين أو أدنى من شقة هيكل المطلة على النيل -حيث السجاد، والمطبوعات على الجدار، والأثاث المطرز، والزهور المرتبة بعناية وصور لهيكل بصحبة خروتشوف- كان هناك مظاهرة في الشارع من قبل بعض العشرات من المصريين. كانوا أعضاء في حركة كفاية، الذين يطالبون بوضع حد لحالة الطوارئ في مصر وحكم الرئيس نفسه وتوريث الحكم إلى ابنه جمال، وقوانين الانتخابات الجديدة والتي سوف تحرم الإخوان المسلمين من الحصانة البرلمانية – كان عددهم قليل جداً، بل أقل بكثير من 300 رجل أمن بالزي الأسود يحيطون بهم. في حين لا يزال الرئيس جورج بوش يعتقد بأن مصر أصبحت بلداً أكثر ديمقراطية، والتشريعات الجديدة التي أقرها أقل من ثلث جمهور الناخبين هو في الواقع نقل ل"حالة الطوارئ" إلى حالة طبيعية وراسخة من القانون المعتاد. مصر ليست مكانًا سعيدًا. ويتابع هيكل: "هناك حالة من الاستقطاب، بين الأغنياء والفقراء، الثوريين والمحافظين، وبين الحكومة والشعب، وهذا الشيء هو تمزق يسري عبر العالم العربي، وعندما يتعلم الأولاد في الجامعات على استخدام أجهزة الكمبيوتر، ينتهي بهم الأمر في المساجد. هناك بحر واسع بين السلطة والشعب، هذا البحر مفتوح الآن، وليس هناك رياح، ولكن عندما تهب الريح..". يأخذ هيكل نفساً من سيجاره الكوبي، انتظرت لثلاثين عاماً مؤلف « Sphinx and Commissar»، الطريق إلى رمضان، خريف الغضب (عن اغتيال السادات)، كنت أتمنى أن يعرض عليّ إحدى سيجاراته، التي أغضبت نيكيتا خروتشوف، وسأله الزعيم الروسي بعد أن رآه يشعل سيجاره :"هل أنت رأسمالي؟ لماذا تدخن سيجار؟، فإجابه هيكل :"لأنني أحب السيجار". نزع خروتشوف السيجار من يد هيكل وسحقه في مطفأة السجائر، وزمجر قائلاً:"السيجار رمز الرأسمالية"، في المرة التالية التي أجرى هيكل حواراً مع خروتشوف عام 1958، ترك السيجار في الخارج، لكن خروتشوف سأله :"أين السيجار، لأنني أريد سحقه مرة أخرى". يمكنك أن تعرف الآن لماذا كان السادات يريد سحق هيكل؟. فهو مشهور بما فيه الكفاية، ويمتلك الكثير من الأصدقاء حول العالم، ولأنه قادراً على تعديل القصة وراء السخرية من الرئيس و وصفه بالبقرة الضاحكة، دون أن يتوقع أن يطرق رجال الأمن على باب شقته الأنيقة. ولكن مثل باقي المصريين، كان هيكل غاضباً ومحبطاً من البيروقراطية والدكتاتورية. وفقد أراد تأسيس مؤسسة لشباب الصحفيين وسعى بحسب الأصول المتعارف عليها لتسجيل مؤسسته الجديدة مع الحكومة المصرية رسمياً. يقول هيكل:"أخبرني المحامي أننا استطعنا التسجيل بموجب قانون 2002 - أرسلنا للسلطات نسخة من محضر الاجتماع الأول لمجلس الأمناء، لكن وزارة الشؤون الاجتماعية أرسلت لنا رسالة غريبة جدا، قالت فيه:" نعم لديكم الإذن في العمل وتم نشر هذا التصريح في الجريدة الرسمية، ولكن وفقاً لتعليمات من الأمن لا بد لي من إعطاء تفاصيل عما يقوم به طلابنا، ومن أين أتوا؟". ويضيف هيكل :"قالوا إن هذا هو الإجراء المتبع، ولكني لن افعل ذلك، التعليمات لن أطيعها فنحن نتحدث إلى الصحفيين الذين يعملون معنا عن الحرية، ثم أنا من المفترض أن أقول لهم عند وصولهم أنني يجب أن أسأل "الأمن" للحصول على إذن لهم؟. هذا هو هيكل الذي طوّر قصة السادات، هو تقريباً 83 عاما، أكبر قليلاً من مبارك، مع تلك التلميحات المشينة عن وفاة هيكل أثناء رحلة علاجه في أمريكا من سرطان البروستاتا والكلى، "طبيبي د.نوفيك سألني إن كنت أريد أن أعرف ماذا سيفعل، أجبته "لا، لأنك عندما تتخطى ال75، فانت تصل إلى ركن الغرفة المظلمة، وداخلها وحوش تنتظرنا ويسألون: من التالي؟". التقطت هيكل عدداً من صحيفة صوت الأمة، على الرغم من التأمل العميق أن الأمر ليس كذلك أبداً. كان هناك عمود صحفي مخصص للشائعات حول الأغنياء جدا. " حفل زفاف يتكلف 2 مليون دولار"، قالها وهو ينفخ دخان سيجارته على التقرير، "وحضر الحفل ألفان من نجوم المجتمع، بحسب ما وصفتهم الجريدة، وأن مطرب الحفل تقاضى 50 ألف دولاراً!. «هناك شيء خطير يحدث في مصر، الضغوط الاقتصادية، والضغوط السياسية، لم نشهد أبداً هذه النسب الخطيرة في الفقر، أنا أذهب إلى القرية وراء مزرعتي بدلتا النيل وأحاول أن أساعد الناس هناك، هناك من لديهم قصور مذهلة، إنه أمر مثير للدهشة أن كل حي غني يقع في تخومه حي فقير، أحد أصدقائي، طبيب، يقول لي إنه يوماً ما ستزحف الأحياء الفقيرة نحو هذه القصور، فلا عجب أن في الكريسماس الماضي أمرت الحكومة الجرائد بعدم نشر أسعار الحفلات الغنائية وحفلات الزفاف. ظهور هيكل المنتظم على شاشة الجزيرة خلق له أتباعاً جدداً خاصة من الشباب، حيث يأتيه 50 ألف بريد إليكتروني وجواب أسبوعياً، عندما كان رئيساً لتحرير الأهرام كان محظوظاً أن يصله 25 رسالة في الأسبوع، وهو أمر ليس صعباً على الإطلاق أن ترى كيف متابعوه يعشقون حريته في قول أشياء لن يتلفظ بها الرؤساء على الإطلاق. يقول هيكل:«لقد تسببت الإدارة الأمريكية في ضرر كبير بالمنطقة، لقد أخرجوا مصر خارج المعادلة، وجعلوا المملكة العربية السعودية تجري وراءهم، لقد فشلوا في العراق لكنا خسائرنا أكبر بكثير من خسائرهم، لقد كنت أتناول العشاء مع شخص أمريكي وأخذ يخبرني عن الديمقراطية التي تريد بلاده أن تجلبها للمنطقة، فسألته: إذا كنت تريد أن تبدأ تجربة ديمقراطية، لماذا العراق؟، ولماذا تؤججون الصراع السني – الشيعي، العراق ينهار تحت الإدارة الأمريكية، كيسنجر كان دائماً حريص على ما كان يسميه هو "الفجوة السحرية"، كان يعلم أن الحرب في فيتنام تفشل، لكنه أراد هذه الفجوة، الآن الأمريكان في حاجة إلى هذه الفجوة في العراق ليكسبوا الوقت. لكن الآن الإدارة الأمريكية على نصف جسر معلق، ينتظرون النصف الآخر من الجسر، لكن الحقيقة، إنه ليس هناك نصف آخر. لبنان تحتل عقل هيكل، على الرغم أنه يفضل عدم زيارة بيروت الآن، ويؤكد "لبنان ضرورة لنا، أداة ضرورية للعرب، نحتاجها كمكان للاجتماع، وظيفة المستمع، كواجهة عبر البحر الأبيض المتوسط. أنت تعرف، أنا لم أذهب للبلد - وأنا أتحدث عن لبنان عندما كان رفيق الحريري رئيس الوزراء - حيث يقول رئيس الوزراء لي: "أنا لست لبناني، أنا سعودي". هذا الاقتباس كان لرفيق الحريري الذي كان لبناني المولد، لكنه كان يحمل الجنسية السعودية، لا يمتلك فرصة للإنكار، فقد اغتيل في بيروت قبل عامين، "لقد كان مالاً يبحث عن الاحترام، واحتراماً يسأل عن المال". وقال لي يوماً :" إن رئاسة الوزراء في لبنان تكلف صاحبها مليارات الدولارات". "أنا لا أذهب إلى لبنان الآن. كل أصدقائي الشخصيين هم على جانب واحد. لكن كل تعاطفي السياسي على الجانب الآخر. أود أن تناول وجبة العشاء مع غسان تويني -ناشر لصحيفة السفير المؤيدة لحكومة فؤاد السنيورة وابن رئيس تحريرها جبران قتل في انفجار سيارة ملغومة-، ولكن بعد ذلك أود أن أذهب لرؤية زعيم حزب الله، حسن نصر الله. "السنيورة هو رجل لطيف جدا، قوي جداً، احتفظ بمنصبه، اعتقد انه الآن أكبر من الحريري. انه خلق التعاطف مع لبنان خلال حرب الصيف الماضي عندما بكى. ولعب دور المتألم. لقد كنت ظالماً له يا روبرت، قلت لي أن ونستون تشرشل لم يبك عندما كان في حرب عام 1940، السنيورة ليس تشرشل، ووجه هيكل سؤال :"ألم يكن تشرشل القائل كل ما كان ما يعرضه على البريطانيين هو العرق والدم والدموع"؟. وعن المستقبل؟ كما يقول هيكل، العرب يؤمنون أن الأميريكيين هم أعداؤهم. كانت الولاياتالمتحدة وعداً لهم مرة واحدة، أجلس مع الشباب وأحاول أن اجعلهم يفهمون الفرق بين السياسة الأمريكية والشعب الأمريكي. ولكن أعداء الأمريكان ليسوا فقط من طالبان وحماس وحزب الله، ولكنه بحر واسع من الناس العاديين الذين يكرهونها لأن الأميريكيين خلقوا استقطاباً في حياتهم، وهم بين العجز واليأس. هذه كارثة. حتى الآن لا يزال هناك تفاؤل في حديث هيكل. "أعتقد أن هناك شيئاً مثيرًا للاهتمام يحدث في مصر، يتحرك تحت ضغوط من المجتمع، المدهش في طلابنا ليس معايير التعليم، لكنه حرصهم على اكتساب المعرفة، تأثير الهواتف المحمولة، وأجهزة الكمبيوتر، والأقمار الصناعية، هناك جيل قادم خارج الضوابط التقليدية المعتادة، في العادة الأجيال تعيد اكتشاف نفسها، ولكن شيئا آخر يحدث، الشرطة غير قادرة على منع المظاهرات السياسية وهي ليست كبيرة جدا، ولكن باستخدام الهواتف، والهواتف النقالة، وشبكة الإنترنت، والرسائل القصيرة، بدأوا شكل سياسي لحرب العصابات باستخدام الوسائل التقنية الحديثة. هل تعرف أن لم يسبق في تاريخ مصر أن كانت ميزانية الجيش أقل من ميزانية الشرطة؟ الآن هذا هو الحال، ماذا يخبرك هذا؟! " الدروس المستفادة من هذا الرجل العظيم، و نعم هذا السيجار، من دون أية تلميحات، عرض عليّ هيكل واحداً، وأخيراً يمكنني استنشاق الدخان الأزرق عبر غرفة معيشته، أضع بعناية الشريط البني والأصفر، هافانا ترينيداد، داخل صفحات دفتر ملاحظاتي. في حال أن شبح خروتشوف لا يزال يحوم في الغرفة المظلمة.