أن الأدب الروسي في جميع مراحله، بداية من روسيا القيصرية، وروسيا الاتحادية، وتفتت الاتحاد السوفيتي، وبداية عصر الحداثة، يتمتع بطابع فلسفي إنساني، محوره طرح أسئلة الوجود بين أبطال رواياته، ولذا فأنه وجد صدي عالميا بين كافة الاجناس، وخاصة في المنطقة العربية، التي تشابكت مع الأدب الروسي في محاكاة الواقع العربي بكل إشكالياته وإذا كنا قد توقفنا عن متابعة الأدب الروسي في الآونة الأخيرة لقلة الترجمات عن الروسية مقارنة بما كان يتم في الستينات من ترجمات سامي الدروبي لأعمال دوستويفسكي كاملةً بأسلوب آخاذٍ ولغة سلسة، وترجمات أبوبكر يوسف لأعمال تشيكوف بلغة عذبة. هناك ترجمات متباعدة أفقدتنا معرفة بعض الروائيين المعاصرين أمثال ميخائيل شيشكين وغيره، الذي صدر له مؤخرا كتاب تحت عنوان » الرسائل» والذي نال شهرة عربية وعالمية كبيرة، عندما ترجمه للعربية د.فؤاد المرعي، وهو باحث سوري، وأستاذ في جامعة حلب. وله ترجمات كثيرة عن اللغة الروسية في مجال النقد والأدب والرواية، وأدب الأطفال. كتاب الرسائل أو المراسلات للروائي الروسي شيشكين صدر أول مرة باللغة العربية في عام 2013 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ثم أعيد طبعه حديثا. وهو عبارة عن رواية ترصد رسائل عاشقين» فلاديمير وساشينكا» فرّقتهما الحرب. فلاديمير يتم استدعاؤه ليلتحق بالجيش الذاهب إلي الحرب، أما ساشينكا فتنهي دراستها للطب، وتعمل طبيبة نسائية. كل منهما يحدّث الآخر عما فاتهما قوله حينما كانا معاً، حيث نجد حديثهما عن الحرب، وعن نشأتهما، ووالديهما، وعن مخاوف الطفولة وآمال المستقبل. كل منهما يبث الآخر أشواقه، من دون أن يكون من الواضح متي بدأت هذه الرسائل، حيث يسترسل كل منهما تفاصيل حياته في صور مجسدة من خلال رسالة بلا عنوان أو تاريخ، تتداخل الرسائل في نسيج السرد القصصي لتصنع حكاية متسقة متواصلة الاحاسيس والمشاعر المتبادلة، تتسم الرواية بحالة سردية عاطفية لأدق التفاصيل اليومية في حياة كل من العاشقين يقول فولودينكاأو فلاديمير» كم تمنيت أن أكون مثل أولئك جميعاً - راضياً، سريع الغضب، مرحاً، متيناً، لا أتساءل -أري الأشياء واضحة من تلقاء نفسها، أتعلم أن أتشبث بالحياة، أتجاوز كل ما ليس ضرورياً، مشروطاً، محسوباً، أتعلم ألا أفكر بالخوف من الموت، بل الأدق ألا أغرق في التفكير، أتعلم أن أضرب حين يجب أن أُضرَب، وأفرح بما هو موجود، وألا أصدع رأسي بالتفكير في سبب الحاجة إلي ذلك كله.. هأنذا أكتب التقرير عن موت الرجل دون أن ترتعش يدي.ذلك أمر جيد» كل شيء في هذه الرواية نسبي، حتي الزمن؛ إذ ليس من المهم ما يجري، بل كيف هي الساعات والأيام والسنوات في وعي العاشقين، منذ أن أبصرا النور حتي الموت.يكتب فولودينكا كما كانت تناديه ساشا: ها ذي الورقة البيضاء أمامي من جديد وسيلتي للتواصل معك لكن من جهة أخري كيف تستطيع ورقة غبية أن توحدنا في حين أن ما يفرقنا تافه لا معني له!كيف يمكن لحواجز تفرق بيني وبينك؟ انت أيضاً تشعرين الشعور نفسه أليس كذلك؟! يسترجع فلاديمير ذكريات حبه مع ساشينكا »ساشا »، كأنها تولد من جديد. ومع الرسائل لكل شيء وجوده الخاص، فهي تحكي له عن حياتها التي بدأت تكتسب معني وجدوي، وهو في الجبهة يكتب لها عن المستشفي العسكري وعن معاناة الجرحي، وعن حقيقة أن كل الكلمات مخاتلة ليس بوسعها نقل الأحاسيس. يموت فلاديمير بينما تتواصل رسائله، وتستمر ساشا في الكتابة إليه، عن زواجها، وعن فقدان جنينها، وعن رحيل والديها عن الحياة. عبر »كتاب الرسائل»، ومع انسيابية الترجمة عن الروسية وتميزها لدي الدكتور فؤاد المرعي، تتضح البراعة الفائقة لدي ميخائيل شيشكين في الإحاطة بعالم العواطف والزمن، وفي تصوير المدي الواسع للشخصيات وحميمية تفاصيلها، الأمر الذي يجعله رائداً بين كتّاب جيله. كتاب الرسائل يعيد هذا النوع من الأدب الذي تواري أمام وجود الوسائل الإلكترونية وثورة التواصل الاجتماعي التي غيبت الكثير من رومانسية الرسالة المكتوبة، بالإضافة إلي ظهور تيارات الكتابة الحديثة وما بعد الحداثة باعتبار أنه أسلوب سهل للسرد القصصي والحكي الجديد، واستسهال سرده مع أن هذا النوع من الأدب مازال له عشاقه ومحبوه الذين عشقوا ما كتبه وبرع فيه كالمبدع جبران خليل جبران في كتابه (رسائل جبران مع مي زيادة)، مثلما برع أيضاً الكاتب مصطفي صادق الرافعي وجمعت رسائله بينه وبين محمود أبي ريَّة وبعض أدباء وشعراء عصره في كتاب سمِّي »رسائل الرافعي». أيضاً رسائل غسان كنفاني إلي غادة السمان ومحمود درويش إلي سميح القاسم. وغيرهم من أصحاب إبداعات أدب الرسائل، الذي مازال يحتل مكانه في ساحة الوجدان عندما يأتي في سلاسة وعذوبة رسائل شيشكين.