( 2) حفظ العقل لا معني للإنسان بغير عقل، فالعقل هو مناط التمييز الذي ميز الله به الإنسان علي سائر مخلوقاته في الدنيا، وهذا العقل هو المنوط به الفهم والإيمان والإرشاد إلي الطريق المستقيم. ومناط عالمية الإسلام كدين للعالمين، يمتد خطابه إلي الدنيا والناس كافة، بغير حدّ، إنما هو المنزلة التي أنزلها للعقل، واتخاذه أداة لفهمه، وجعله من التفكير به وبملكاته فريضة، يعول عليها في أمر العقيدة وفي أمر التبعة والتكليف. وحين أعطي الله لنبيه محمد القرآن، فإنه أعطاه وأعطي للدنيا بذلك نبوة فهم وهداية تخاطب الوجدان والعقل والضمير، هاديها العقل بالبينة والفهم والموعظة الحسنة، ولا تفحمه بالمعجزة المسكتة. وخطاب القرآن الحكيم للعقل، اتجه إلي كل وظيفة من وظائفه يتسع لها العقل الإنساني.. العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل المفكر أو الحكيم، والعقل الرشيد. فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها » الوازع » الأخلاقي أو المنع عن المحظور والمنكر.. ومن خصائص العقل ملكة » الإدراك » التي يناط بها الفهم والتصور.. ومن خصائصه أنه يتأمل فيما يدركه ويقلبه علي وجوهه، ويستخرج منه بواطنه وأسراره، ويبني عليها نتائجه وأحكامه.. وجملة هذه الخاصية تجمعها ملكة » الحكم » وتتصل بها ملكة » الحكمة ». ومن أعلي خصائص العقل الإنساني » الرشد »، وهو مقابل لتمام التكوين في العقل الرشيد، ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم.. لأنها استيعاب واستيفاء لجميع هذه الوظائف وعليها مزيج من النضج والتمام بميزة الرشاد. وفريضة التفكير في القرآن الحكيم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بكل خصائصها ومدلولاتها، وتخاطب كل خاصية من هذه الخصائص. والعقل من مقومات قدرة الإسلام علي الحياة وعلي التجدد الذي يواكب ويلاحق مستجدات الحياة، ويواجه تطوراتها التي لا تنتهي، فالنصوص متناهية، والحادثات غير متناهية، ومن ثم كان العقل والقدرة علي الاحتكام إليه بالتفكير والتأمل والتدبر، هو معقد قدرة الإسلام علي التواصل والاستمرار، بقدرته علي الفهم والاستخلاص والتحليل، ومواجهة التطورات والحادثات غير المتناهية بما تقتضيه في إطار أصول الدين وثوابته. لذلك كان » حفظ العقل » مقصدًا أساسيًّا من مقاصد الشريعة الإسلامية، إعماله واجب والقعود عن استخدامه خطأ قد يصل إلي حد الخطيئة. قعود الكفار عن استخدام العقل كان هو منزلقهم إلي الخطيئة، وفي هذا أورد القرآن من قول الكفار ولومهم لأنفسهم يوم القيامة: » وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ» (الملك 10، 11). بدون هذا المقصد: حفظ العقل، يتوه الإنسان ويضل طريقه ! آفة تعطيل العقل الذين عطلوا العقل، أورثهم تعطيله عنادًا، وأورثهم العناد كفرًا، وقد روي القرآن الكريم صورًا كثيرة من هذا العناد الدال علي تحجر العقل وجموده، والقعود الضرير عن استخدامه، فيقول قوم إبراهيم له فيما يرويه القرآن: » إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ » قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ » قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ » (الأنبياء 52 54)، ويبدي بنو إسرائيل عجبهم من دعوة موسي الكليم لا لشيء إلاَّ لأنها تلفتهم وتثنيهم عما وجدوا عليه آباءهم، فيقولون له منكرين بعقول متحجرة: » أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا » (يونس 78).. وتقول ثمود لنبيها صالح:» أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا » ؟ ! (هود 62) ، وتقول مدين لشعيب عليه السلام: » أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا » ؟! (هود 87)، وعلي مثل هذا التعجب العازف عن استخدام العقل قالت » عاد » للنبي هود: » أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا » ؟! (الأعراف 70)، حتي الفواحش، لم يجد الكفار والمشركون بأسًا في تبريرها بما كان يصنعه الآباء، وقد وصفهم القرآن المجيد إلي رسول الله فقال جل شأنه: » وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَي اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » (الأعراف 28). تحكمت في هذه العقول المعطَّلَة آفاتُ الاعتياد الذي التزموه بلا تفكير وبلا إعمال للعقل الذي أنعم به الله علي الإنسان، ومن هؤلاء من قالوا لنبي الهدي عليه الصلاة والسلام: » بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَي أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَي آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ » وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَي أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَي آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ » (الزخرف 22، 23)، ومن هؤلاء سخر القرآن المجيد من ضلالهم وقصور عقولهم فقالت الآيات عنهم: » إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ » فَهُمْ عَلَي آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ » وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ » (الصافات 69 71 ). قص القرآن الحكيم ما كان من ضيق عقل هؤلاء الأقوام مع نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسي وعيسي، وحاجاهم في سورة البقرة بقوله عنهم: » وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ » (البقرة 170)، وجاء عنهم في سورة المائدة » وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَي مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَي الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ » (المائدة 104). وجوب إعمال العقل لا سبيل إلي مقاومة » شرانق » الاعتياد، إلاَّ بإعمال العقل، فإذا كان هذا الإعمال واجبًا دينيّا، فإن مسئولية حتمية تعطيلها خطأ ضرير يؤدي إلي الخطيئة، وقد رأينا كيف أن عناد الغابرين قد أورثهم الكفر، ومن ثم كان الإنسان مسئولاً عن استخدام عقله، وعلي حسن أو إساءة استخدامه، مثلما يُسْأَل عن استخدامه لبقية وسائل الإدراك الحسية، وفي ذلك يقول القرآن الحكيم: » وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً » (الإسراء 36). تعطيل العقل، والقعود عن إعماله فيما يجب إعماله فيه، ينطوي علي تعطيل للحكمة التي أرادها الحكيم الخبير من إنعامه علي الإنسان بنعمة العقل، وقد وصف القرآن الحكيم هذا القعود بأنه أحط درجة من الحيوان، فقال تعالي: » وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ » ( الأعراف 179 ). حفظ هذا العقل، ومن ثم إعماله، مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية، وأورد ابن رشد أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وذلك أخذًا من آيات القرآن، وفي وصف العقل قال عنه الإمام أبو حامد الغزالي » إنه أنموذج من نور الله »، ووصفه الجاحظ بأنه » وكيل الله عند الإنسان ».