يخطئ من يظن أن القراءة لتاريخ مواقف بعض الدول الأوروبية من مخططات دعم الفوضي أو التقسيم السياسي الديني والعرقي أو استغلال تنظيمات العنف والإرهاب، هي محاولة للتنصل من تحمل المسئولية التاريخية عما آلت الأمور اليه في منطقتنا العربية بجناحيها في المشرق الآسيوي والمغرب الافريقي.. بل تقتضي الأمانة مع النفس الإقرار بأنه لولا سوء أوضاعنا الداخلية والأمية الثقافية والسذاجة السياسية- التي استجابت لدسائس إفشال حملة التنوير الثقافي والاجتماعي والتعليمي ومساعي النهوض السياسي والاقتصادي والعسكري بالأمة منذ أكثر من قرنين من الزمان- لما وصلنا الي تلك الحال، فالتاريخ يقطع بعدم صلاحية الفاعلية »التخريبية» لسم »المؤامرات الخارجية» الزعاف ما لم يصادفه جسد منهك ذو »أوضاع داخلية» متردية تهييء له المناخ المساعد علي بلوغ أهدافه في الهدم »المادي» للدول و»المعنوي» للشعوب ونهب ثرواتها والعبث بمقدراتها وتخريب ثقافاتها وقيمها ومبادئها وحثها علي التناحر فيما بينها. وإننا في هذه السلسلة المعنوية »في التحذير من إسقاط الدولة الوطنية».إنما نسعي بصورة منهجية تاريخية لمحاولة كشف تاريخ وأبعاد »المؤامرة» التي تستهدف منطقتنا العربية من قبل الاستعمار البغيض الذي لا يريد أن ينسي كيف أجبر علي الخروج منها مذموما مدحورا ويريد أن يعاود الكرّة ولكن في صور مستحدثة غير مباشرة حينا وبالوكالة أحيانا، ونحاول استجلاء منظور الغرب الاستعماري في التعامل مع وطننا العربي أو ما تبقي منه عقب قدوم نذير الشئوم المسمي »الربيع العربي» أو »الخريف العبري» عام 2011 الخراب »المادي» و»المعنوي» والتدمير »البشري» والحضاري» الذي حل بالمنطقة وسقوط عدد من دولها التي طالما كانت حجر زاوية في تاريخ وجغرافية وثقافة تلك الأمة العريقة، إنما أهلك ما لا يمكن تداركه من الحرث والنسل وأضاع ما يستحيل تعويضه ولو بعد حين، وهل بعد النفوس الهالكة والأجساد العليلة والمعنويات المحطمة والأجيال المشوهة والآثار المدمرة والمنهوبة والثروات المسروقة، من ضياع وخراب؟ فالمؤكد ان عجلة التاريخ تدور لتعود بالاحداث القديمة مجددا، وتنبئنا مجرياته بأن المخطط قديم والادوات عتيقة، وقديما قال أهل الحكمة »الخبر ما تري لا ما تسمع». يقطع علماء السياسة بأن تشجيع الفوضي في البلدان المنافسة هو ابتكار »بريطاني» بحت وسياسة استعمارية اضطلع بسنها اللورد هنري بالمرستون، وزير خارجية بريطانية »1830- 1841 ورئيس وزرائها لمرتين، وذلك بإصدارها في صورة تشريعات سميت باسمه، حيث عمدت الي تشجيع »الفوضويين» وهو ما اصطلح علي إطلاقه علي »المعارضين» لانظمة الحكم في الدول الاوروبية حينذاك. عناصر التحريض فقد رأي »بالمرستون» ان تشجيع حركات المعارضة في الدول الاوروبية يكسب »بريطانيا» وضعا مميزا إذا نجحت في توظيف عناصر التحريض في كل بلد من بلدان أوروبا لتحقيق مصالحها، واحتاجت بريطانيا حينها الي سن تلك »التشريعات» لادارة الصراع علي المستعمرات في مواجهة القوي الاستعمارية الاوروبية المنافسة الأخري »كفرنسا وروسيا وبلجيكا وايطاليا وألمانيا وإسبانيا وهولندا وغيرها» وقد حدث عندما تسلم »بنيامين دزرائيلي» رئاسة الحكومة البريطانية أن القيت قنبلة علي »نابليون الثالث» وتبين من فحص السلطات الفرنسية لها أنها »صنعت في بريطانيا» ومن المؤكد ان اللورد، »بالمرستون» قد لعب دورا خطيرا في توفير الدعم العملي لإقامة كيان »صهيوني» علي أرض »فلسطين» من منطلق الدراية بسبل هدم أي دولة تطل برأسها وتحاول أن تكون رقما في المعادلة السياسية الدولية، فكان له الدور الأكبر في إحباط المشروع التوسعي لمحمد علي باشا مصر وإرغامه علي توقيع معاهدة لندن عام 1840 ودعم الامبراطورية العثمانية في مواجهة والي مصر القوي الطموح وجيشه الحديث المنتصر في ساحات عدة بعد ان كانت بريطانيا قد شاركت - مثل ألمانيا وفرنسا- دعما وتسليحا لمحمد علي باشا إبان ارتفاع شأنه حتي عام 1825. ترجع فكرة انشاء وطن قومي لليهود الي »نابليون بونابرت» الذي طالب بإقامة دولة »يهودية» في فلسطين، طالبا من يهود أوروبا تشكيل مجلس »السنهدرين» هيئة قضائية عليا حيث كانت قائمة زمن مملكة اسرائيل الغابرة»..وحث المجلس علي مساندة احتلال »المشرق العربي» واعدا إياهم بمنحهم فلسطين» فأخذ الكتاب اليهود يشجعون من خلال كتاباتهم علي الهجرة الي فلسطين وتأسيس دولة لهم فيها وفي عام 1799طلب »نابليون» اثناء حملته علي الشام» من يهود افريقيا، وآسيا أن ينضموا تحت لوائه ويعملوا علي احياء مملكة أورشليم وإعادة بناء الهيكل. الدور البريطاني التخطيط والتنفيذ عندما تولي اللورد بالمرستون وزارة الخارجية البريطانية عام 1830 لأول مرة كانت الامبراطورية العثمانية بادية الضعف وتجلي ذلك بنجاح »محمد علي» باشا في احتلال بلاد »الشام» لذا حاول »بالمرستون» ان تبقي الدولة العثمانية متماسكة في حين كانت كل من »روسيا وفرنسا» تتلهفان علي انهيارها طمعا في الحصول علي نصيبهما من التركة المتوقعة، لذا بحث »بالمرستون» عمن يحمي مصالح »بريطانيا» في »الشرق العربي» حيث توجد ولايات الدولة العثمانية- فوجد ضالته في تأسيس »كيان» لليهود في المنطقة العربية مستقبلا، وبحث »بالمرستون» الفكرة مع اللورد »شافتسبري» صاحب الجملة المأثورة »أرض بلا شعب الي شعب بلا أرض» الذي أفصح عن مشروع أعده منذ زمن هو تكثيف »الاستيطان اليهودي في فلسطين» وقد تبني الصهاينة فيما بعد هذه العبارة لتصبح اشهر عباراتهم. كان »بالمرستون» في مقدمة الساسة البريطانيين المروجين للصهيونية ذات النزعة العنصرية قبل ميلادها رسميا عام 1897 كما شدد علي ربط الدولة العثمانية بالغرب داعيا الي لحاقها بركب الحضارة الغربية. وقد تم افتتاح أول قنصيلة »بريطانية» في القدس عام 1834بغرض حماية المصالح »البريطانية» في الشرق أولا، والاهتمام بتشجيع هجرة »اليهود» الي فلسطين ثانيا، حيث صدرت تعليمات الخارجية »البريطانية» الي قنصليتها بالقدس بشأن الاهتمام بشئون »اليهود» وتسجيلهم بقصد حمايتهم، وكانت تعليمات »بالمرستون» الي القنصل »البريطاني» في القدس تقديم تقارير عن وضع اليهود في فلسطين وضرورة اتخاذ الاجراءات الكفيلة بتأمينهم، ونصت رسائله علي اعترافه باليهود كأمة وارتباطهم بفلسطين كوطن ومما يذكر ان تلك الحماية البريطانية كانت لليهود حاملي الجنسيات الاجنبية، أما يهود الامبراطورية العثمانية »يهود الراية» فعدوا تابعين لها وخاضعين لتشريعات السلطان العثماني وحدث أن بعث بالمرستون، رسالة عام 1840 الي السفير البريطاني بالسلطنة طالبا حث السلطات علي إصدار قرار بتشجيع تجميع »اليهود» المتشتتين في أوروبا تحت حماية السلطان وعنايته مؤكدا انتشار روح الصداقة تجاه السلطان مع جميع يهود أوروبا حال صدور ذلك القرار. ولا يخفي علي القارئ الغرض الاسمي من ذلك التخطيط البريطاني الخبيث الذي يستهدف المصلحة التجارية لبريطانيا في المقام الأول لما لموقع »فلسطين» علي الطريق بين بريطانياوالهند مستعمرتها الكبري- وهكذا كانت بريطانيا تخطط للمحافظة علي امبراطوريتها الممتدة من كندا غربا الي الهند شرقا الي استراليا في الجنوب الشرقي، طامحة في الحصول علي الاقاليم الواقعة علي ذلك الطريق ومنها فلسطين وسوريا ومصر وتجزئتها بتوطين اليهود فيها. وكان »بالمرستون» يري أن الوجود »اليهودي» في فلسطين يحقق مكسبين للمصالح البريطانية. الأول مكسب »مباشر» يتمثل في وجود »كيان» موال لبريطانيا في منطقة ليس لها فيها من يواليها، والثاني »غير مباشر» ويتحقق بتدفق رأس المال اليهودي للسلطان العثماني لدعم نظامه الاقتصادي المنهار ويحافظ علي الحد الادني من التماسك للدولة العثمانية- كي لا يرثها الطامعون- فيصبح السلطان طوع السياسة البريطانية - اليهودية. ومما يذكر ان »الصهيونية» كانت مقصورة علي غير اليهود حتي منتصف القرن 19 حيث تحرك مناصرو الشعب اليهودي بدافع شخصي لا بالتعاون مع اليهود، ومن المعروف ان »الصهيونية» إنما نشأت في »أوروبا» لا في فلسطين، ويمكن القول بما لا يجافي حقائق التاريخ إن الدور »الأوروبي» في نشأة »الصهيونية» كان أعمق كثيرا مما يظهر لنا عبر الكتابات الصهيونية بأنها حركة ذاتية واستمرارية لطبيعة المشاعر اليهودية، لقد أوجد الاوروبيون »الحركة الصهيونية» والحقيقة أن »أوروبا» كانت المهد الذي لولاه لما كان للحركة الصهيونية أن توجد. هجرة اليهود ومع مرور الوقت بدأت الدعوة لإنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين تلقي قبولا بين اليهود، حيث بدأت الهجرة الجماعية- الي فلسطين وأقيمت مستعمرات يهودية علي الأراضي العربية، وواجهت عملية الاستيطان في فلسطين مقاومة عنيفة ومسلحة من العرب بهجومهم علي هذه المستعمرات سنة بعد أخري. بعد ذلك بدأت الحركة الصهيونية في الانتشار ويعتبر اليهودي »ثيودور هرتزل» مؤسس الحركة الصهيونية، وكان أول من خطط لإنشاء دولة يهودية علي أرض فلسطين عن طريق استخلاص ملكية الأرض التي ستعطي لهم وتشجيع أهالي فلسطين علي النزوح الي البلدان المجاورة. وفي 29 اغسطس 1897 عقد أول مؤتمر صهيوني في مدينة »بازل» بسويسرا وكانت ابرز قضايا ذلك المؤتمر بعث اليهودية في يهود أوروبا الغربية، وتعليم اللغة العبرية لليهود، والقضية الاساسية توجيه انظار اليهود ومشاعرهم نحو فلسطين، وتحويلها عن أمريكيا الجنوبية. وقد عقدت الحركة الصهيونية عدة مؤتمرات لذات الغاية، بل وحاول »هرتزل» الحصول علي فلسطين من السلطان العثماني عبدالحميد.. بعدة طرق منها الاغراءات المالية بسداد ديون الدولة العثمانية، وانشاء شركة يهودية عثمانية، وطلب الوساطة الأوروبية لدي السلطان لاقناعه، إلا ان جميع محاولات »هرتزل» قد باءت بالفشل، فحاول الحصول علي »فلسطين بواسطة انشاء جامعة عبرية في القدس الا أن ذلك الاقتراح قوبل بالرفض التام. حلم هرتزل وتوفي »ثيودور هرتزل» دون أن يحقق حلمه وحاول الكثيرون بعده السير علي خطاه لتأسيس دولة صهيونية في قلب الوطن العربي، واستمرت موجات الهجرة اليهودية الي فلسطين بتخطيط صهيوني محكم لانشاء وطن قومي يهودي في فلسطين بعد ان تزداد اعداد العنصر اليهودي فيها، ومن أهم المؤسسات التي عملت علي تنظيم شئون الاستيطان ومعالجة قضايا الهجرة والاراضي »الهستدروت» أو اتحاد العمال اليهودي، الذي تأسس عام 1920 في حيفا وسعي جاهدا لتحقيق التنظيم التام. والشامل لكل العمال اليهود في الأراضي الفلسطينية وتوفير العمل للمهاجرين الجدد، والعمل علي إحياء اللغة العبرية بقوة ايضا. وبعد أن لعبت »المخابرات البريطانية» لعبتها في تأجيج الفتنة المسلحة في الجزيرة العربية ضد الدولة العثمانية بواسطة ضابطها الشهير »بلورانس» العرب، فيما عرف بالثورة العربية الكبري، ولدي ظهور إرهاصات نتائج الحرب العالمية الأولي 1914 - 1918 ازدادت وتيرة اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 ووضعت خطط للاستيطان حول »قناة السويس» الشريان الملاحي الحيوي الخطير، التي سبق أن قام »بنيامينددزرائيلي اليهودي رئيس الحكومة البريطانية بشراء أسهم »الخديو إسماعيل» في شركتها عام 1875 بدعم من آل روتشيلد الاثرياء اليهود في بريطانيا. وقد ساعد »البريطانيون» العديد من »اليهود» علي شراء الاراضي في »فلسطين» وبناء مستعمرات يهودية عليها، سيما في مناطق »ملبس وعيون قاره والخضيرة وتل الربيع». وفي تلك الفترة الحالكة عين جيمس آرثر بلفور- المعروف بصهيونيته المتشددة- وزيرا للخارجية البريطانية 1916- 1919 في حكومة ديفيد لويد جورج رئيس الوزراء، الذي أرسله مندوبا عنه مكلفا بالتفاوض مع »الحركة الصهيونية» لدراسة طلباتها بشأن فلسطين حيث طالبوا الحكومة البريطانية بإصدار وعد حكومي رسمي بإعطائهم فلسطين بعد الانتصار في الحرب العالمية الأولي، وهكذا حبكت الخطة لوضع صيغة »وعد بلفور المشئوم ووقعت عليه الحكومة البريطانية ليصدر في 2 نوفمبر 1917 تحت مبرر الرغبة في استقطاب يهود »ألمانيا» للانضمام الي يهود »بريطانيا» لمساعدة »انجلترا» في الحرب العالمية الأولي. وخلاصة ما سبق وفقا لحقائق التاريخ.. ترجع مصائب »الوطن العربي» ومشكلته الكبري »فلسطين»المحتلة الي الدور غير الشريف الذي مارسه البريطانيون- ولا يزالون- في المنطقة وفقا لسياستهم التي تستند الي قواعد خطيرة في عالم السياسة وهي الميكيافيللية البحتة ومنطقها الغاية تبرر الوسيلة، مهما كانت قذرة و »البرجماتية» النفعية الباحثة عن المصالح الذاتية فقط دون غيرها من الاعتبارات الأخلاقية أو الإنسانية أو غيرها والاستعمار المباشر وغير المباشر المرتكز علي مبدأ »فرق.. تسد».. بين شعوب المنطقة الواحدة بناء علي الاختلافات الدينية أو الطائفية أو المذهبية أو العرقية.