أردت بما سلف تفصيله ،أن أبين أن للاجتهاد في الدين علماءه ،وأن الإفتاء له مقاييسه وضوابطه وعلله وأحكامه ،وأنه ليس بمستطاع كل مسلم أن يحسن ذلك ما دام لا علم لديه ولا يمتلك أدوات البحث واستنباط الأحكام. ثم ليري القراء أن العلماء لم يستخدموا اجتهاداتهم لإيقاف عجلة الحياة ،أو التشدد لمجرد التشدد ،أو المسارعة للإباحة لمجرد التخفف ،وإنما هم يبحثون وينقبون ويعملون الفكر ،ليقدموا عصارة هذا الاجتهاد لخدمة الإسلام الذي أراده الله تعالي دينا للحياة والأحياء. وإذ عدنا لما يمكن أن تفرزه الإبداعات البشرية ،لوجدنا حالات عديدة من الإبداعات ،منها ما ذكره فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي وأسلفت موجزه ،ومنها حالات أخري لا يخطئ الباحث أنها إبداعات جمالية فنية صرف ،لا شبهة فيها ،ولا صلة لها من قريب أو بعيد بالشرك أو التعبد بها وإنما هي نتاج قرائح وملكات أودعها الله سبحانه وتعالي في خلقه يستخدمها كل منهم فيما هو ميسر له ،وأظهر الأمثلة علي ذلك استخدامات الكلمة، فهي في استخداماتها السلبية كانت لغة الكفار والمشركين والطغاة والمفسدين ،ولكنها هي هي لغة القرآن المجيد ،والكتب السماوية ،وأحاديث المصطفي والرسل والأنبياء ،وأداة الشعراء والأدباء ،وبها كانت صياغة الأعمال المجيدة التي لا تزال مددا للبشرية إلي آخر الزمان. آفة الخلط بين طبيعة الشيء ،واستخدامه ! هناك من يخلط دون دراية ،بين طبيعة الشيء وبين استخدامه ،فيرد خطأ الاستخدام إلي الشيء ذاته ،مع أنه بذاته مجرد شيء لا خطأ في طبيعته. فقطعة الحجر مجرد حجر ،فإن عبدها ملتاث فالعيب فيه وفي عبادته الضريرة لا في ذاتية الحجر ،وتتعرض الكلمة وهي أساس كل تراث البشرية من خير وشر لهذا الخلط بين الكلمة بذاتها ،وبين استخداماتها التي قد تنحو للشر وقد تتجه للخير ،وكذلك بعض الأدوات والأسلحة ،فهل الشر في السلاح كان في ذاتيته أم أنه لاحق بالخطأ في استخدامه ،وقد دعاني هذا لكتابة مقال للأهرام نشر في 13/4/2006 عن الآلة والأداة بين الطبيعة والاستخدام ،فالسلاح الذي يحمل خطر القتل أو الجرح أو الإيذاء ،هو هو مبضع الجراح الذي يستأصل به المرض الخبيث أو يجري الجراحة لإنقاذ المريض ،وهو هو الأداة التي نستخدمها في تهيئة الطعام للطهي ،وهو هو بلطة أو منجلة أو فأس الفلاح التي يقطع بها الأشجار والحشائش الضارة أو يهيئ الأرض للزراعة والإنبات ،وهو هو الشفرة التي يستخدمها الاسكافي والصانع ،وهو هو ما يستخدم في الدفاع عن النفس والأوطان. كذلك المخدر ،فمع أنه آفة الآفات عند تعاطيه ،إلا أن منه ما يستخدم للتخدير في الجراحات ،بل إن السموم قد تكون ترياقا ،كما يستخدم مثلا في الأمصال ،فالموت كامن في السموم ،ولكن الانتفاع بها وارد في بعض الأحوال ،والعيب هنا كامن في ذاتية الشيء وطبيعته ،ولكن ذلك لم يمنع من الاستفادة به حين يكون لهذه الاستفادة طريق أو مندوحة. وعلي ذلك فلا يوجد مادة شريرة ومادة خيرة ،أو شيء شرير وشيء خير ،وإنما يأتي الشر كما يأتي الخير من الآدمي وما ينحو إليه من سلوك. وهذا هو حال الكلمة ،والقلم الذي نسطر به الكلمة ،ففي القرآن المجيد ،بمطلع سورة القلم: » ن والقلم وما يسطرون ..» هذا القسم القرآني بالقلم ليس عبادة ولا تقديسا للقلم ذاته ،فهو محض أداة جامدة صامتة،وإنما هو إيماء إلي استخدامه وما يدلي به من »كلمات»» ..هذه الكلمات » مكتوبة بالقلم أو منطوقة باللسان أو مشكلة فنيا بالريشة أو الأزميل هي مرجع ومرد وهدف وغاية الاهتمام القرآني ،في سورة القلم ،وفي غيرها من سور وآيات القرآن.. هذه» الكلمات» هي التي نزل بها وحي السماء ،وهي التي صاغت التوراة والأناجيل والقرآن ،وهي هي التي حملت أحاديث ومواعظ ونورانيات الرسل والأنبياء ،وهي هي التي ترنم بها الشعراء وغني المغنون ،وأنشد المنشدون ،وألقي الخطباء خطبهم والدعاة مواعظهم ،وهي هي التي صاغت وحفظت أقيم الكتب والمصنفات في الشعر والآداب والفنون والمسرح والقصة والرواية والعلم والطبيعة ،والفلك والكيمياء والرياضيات والزراعة والصناعة والمهن والحرف وكل ما أنتجته ولا تزال تنتجه قرائح ومواهب وملكات وعقول البشر.. هذه الكلمات هي قوام اللغة التي تقيم أواصر حاضرنا وتحفظ لنا ماضينا ،وهي هي أداة التفكير وسبيل التواصل بين البشر..علي قدر ما تحمله من قدرة علي هذا العطاء الناصع المفيد الغامر ،علي قدر ما تحمل من قدرة علي الإهلاك والتدمير.. هي هي لغة الشيطان وما يوسوس به ،وهي هي أداة أبشع ما قاله الهجّاءون ،وسهام ما وجهه الذمامون والشتامون واللاعنون من قذائف وطعنات ،وهي هي أداة شهود الزور وما قد تؤدي إليه من مساس بحريات أبرياء وربما عصف بحيواتهم.. هذه الكلمات قد تكون أشد تدميرا من نصال الحراب وحصاد المناجل وقذائف المدافع.. وما تحدثه قد يكون أمر وأمض من القتل !.. فإننا نري أن الكلمة قد تكون كالشجرة الطيبة ،وقد تكون كالشجرة الخبيثة ،وسوء استخدام الكلمة لم يؤد بنا إلي إلغاء الكلمات ،وإنما الحث علي حسن استخدامها. إن بعض المشركين ،عبدوا الشمس والكواكب في بعض الأزمان ،فلم يستطع أحد أن يزيل الشمس أو يطفئ شروقها أو يقصي الكواكب عن أفلاكها ،ثم دار الزمان ،فانتهت هذه العبادات الضريرة ،وبقيت الشمس والكواكب دائرة في أفلاكها في هذا الكون العظيم الذي أبدعه الخالق البارئ المصور جل شأنه. ومن اللافت أن الذين يعترضون بغير علم علي الإبداعات الفنية ،ويستهدفون هدمها أو إزالتها باسم الإسلام ،لا يملكون أدوات البحث والمعرفة بالإسلام ،وهم لا يحسنون صنعا باعتراضاتهم وتدميراتهم التي يعزونها للإسلام ،وهم لا يدركون أنهم بما يفعلونه عن جهل وجهالة ،إنما يظلمون الإسلام ويسيئون إليه ويقدمونه أسوأ تقديم للعالم ،فالإسلام حارب الوثنية والشرك ،ولكنه لم يحارب الإبداعات الفنية وقدر الجمال واهتم بحسن تذوقه. والتشدد الذي كان في البدايات إزاء التماثيل ،كانت علته وكما قال الأئمة العارفون الموثوق بهم ،كانت علّته التخوف من العبادة لقرب عهد الناس آنذاك بالوثنية ،ومخافة النكوص والعودة إلي عبادة الأصنام ،وهو تخوف لم يعد له وجود ولا مبرر له حتي لدي الملحدين ،فثقافة العصر لا تستسيغ قط حتي لدي أجهل الجهلاء ،التوجه بالعبادة إلي تمثال مصنوع ،أو اتخاذه شريكا لله عز وجل. والعالم الآن مليء في كل ربع بآلاف الأعمال الفنية الإبداعية ،تمثيلاً ورسما وتصويرا وتشكيلاً ،دون أن يكون واردا علي الإطلاق أنها يمكن أن ترد البشرية ناهيك بالموحدين إلي عبادتها أو الكفر بالله أو الإشراك به. إن العالم لا يزال يتندر إلي اليوم بالجهالة التي أسلست إلي عمليات هدم الأعمال الفنية والإبداعية في بعض البقاع ،وهي جهالة لا تتفق مع قيم وأحكام وروح الإسلام الذي وإن حرم الوثنية وكل صور الكفر والشرك ،فإنه لم يقبح الجمال والإبداع الفني، ومن المحال أن يكون سبيلاً وأ سببا أو ذريعة لهدم أو إزالة أو تدمير التراث الحضاري والفني والإبداعي للإنسانية.