أتعجب كثيرًا ممن يتخذون موقفًا عدائيًّا من الموسيقي والغناء باسم الدين، وبدعوي أن الدين يحرم الموسيقي والغناء، وهو زعم عجيب، يدعي علي الدين ما ليس فيه، ويناقض واقع الكون والحياة.. فالموسيقي هي في الأصل ألحان السماء، لأنها ألحان الكون الذي خلقه رب العرش العظيم، ورب السموات والأرض والعالمين. الموسيقي أنغام صوتية في خلق وطبيعة ومعطيات الكون، قبل أن تكون تواليف وألحانا من صنع البشر . الموسيقي موجودة في تناغم الكون، وفي خرير الماء، وصوت النسيم، وصفير الرياح، وفي حفيف الأشجار والأزهار، وفي زقزقة العصافير، وهديل الحمام، وشدوالبلابل، وتغاريد الأطيار، ودعاء الكروان، وغناء العندليب والشحرور والزرياب، ففي شدوكل هذه الطيور التي خلقها وأبدعها الله، موسيقي، وغناؤها ألحان أرادها سبحانه وتعالي خالق الحياة.. لم يكن الإنسان هوخالق ولا مبدع هذا كله، فخالقه ومبدعه هوالله الخالق البارئ المصور جل شأنه، بديع السموات والأرض.. والموسيقي البشرية التي يصنعها الإنسان ويؤلف نغماتها وطبقاتها، هي في الأصل محاكاة مستمدة من بديع ما في هذا الكون من جمال وكمال وروعة وإبداع، وما فيه من أصوات منها ما ينطقه الإنسان ذاته من أصوات وما يصوغه من كلمات وما هدته إليه الفطرة من لغات ليس حسبها أنها أداة تفاهم وتعامل، وإنما هي أيضًا معمار فيه شيء من الموسيقي الداخلية التي تلبي معاني الكلمات ومقاصدها . والواقع أن الإبداع البشري في الموسيقي والغناء، يتضمن في أصله محاكاةٌ تُرَكَّب وتُؤَلف من إيقاعات وأوزان الموسيقي الكونية تواليف وأنغامًا جديدة، قد تصافح الآذان صافية عبر أدوات عزف الأنغام التي زادت وتنوعت وتطورت بتطور البشرية، وفنون صناعة الآلات الموسيقية التي تتميز كل منها عن غيرها بأوتارها ونغماتها، ما بين الناي والأرغول، والربابة والقانون، والعود والكمان والطنبور، والدفوف والطبول، وما تفرع عن هذه وتلك من آلات شرقية وغربية، تشترك جميعها علي اختلاف مواصفات كل منها في صناعة النغم الذي قد يصافح الآذان صافيًا بلا شريك من كلمات، وقد يصاحبه صوت إنساني جُبل حلاوةً وطلاوةً وعذوبة، لينسرب متآلفًا مع أنغام الآلات الموسيقية، ليكوّنا معًا ما يميز الغناء الذي يصاحبه صوت وأداء المُغَنّي، وبين الموسيقي الصرف التي لا يخالطها أويمازجها غناء . الموسيقي والغناء والتعبير ومع تقدم الموسيقي، ومعها الغناء، كإبداعات بشرية تتناغم مع الموسيقي الكونية، وتصافح القلوب والوجدانات لا الغرائز، صارَا من وسائل التعبير التي تشارك الكلمة واللغة في التعبير أوفي تشكيله أوفي تكريسه، وإضفاء ما يزيد الكلمة واللغة جلاءً وجمالاً ووقْعًا وتأثيرًا .. رأينا ذلك ولا نزال في ترانيم الأديان، كما رأيناه ولا نزال نراه ونطرب له ويصب في حنايانا في تلاوة وترتيل القرآن الكريم، فمع ما في القرآن من معمار موسيقي ذاتي لا يخطئه وجدان وقلب العابد القارئ أوالمستمع له، مما لم يستطع أن يجاريه بشر، ولا أن يحاكي آيةً من آياته في معمارها الداخلي وبلاغتها وتأثيرها، فإن ذلك قد استحث الإنسان المتعبّد علي التجويد في قراءته وفي تلاوته وترتيله، وفي التواشيح المصنفة علي هامشه، وخرجت من واقع الاجتهاد مدارس نراها ونستمتع بها وبتجويد أصوات المقرئين والمنشدين الموهوبين لها، ونستمتع دينيًّا وروحيًّا بتلاوات الشيخ محمد رفعت، والشيخ علي محمود، والشيوخ عبد الفتاح الشعشاعي، وأبوالعينين شعيشع، ومصطفي إسماعيل، وعبد الباسط عبد الصمد، ومحمود علي البنا، وعبد العظيم زاهر، ومحمد الطبلاوي، ومحمود خليل الحصري، وطه الفشني وأترابهم في مدارس القراءات القرآنية والتواشيح الدينية التي تشجينا وتعمق إحساسنا بما في القرآن من موسيقي جذبت إلي جوار المقرئين المبدعين أصحاب الأصوات الطلية من المطربين والمطربات، فقرأوا القرآن ورتلوه، كمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهما.. كان النغم الموسيقي حاضرًا في العبارات التي أنشدها الأنصار وأهل المدينةالمنورة وهم يستقبلون الرحمة المهداة عليه السلام، قادمًا عبر الصحراء، مهاجرًا إلي الله، فتغنوا في استقباله منشدين : طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع فيرد عليهم عليه الصلاة والسلام بعبارات مليئة بالموسيقي الداخلية، إلي بلاغة الجواب .. » أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام » . الشجو ورقة الشعور وسموالأرواح علي مدي قرون، ونحن شأننا شأن الإنسانية والناس في كل مكان، نسمع الموسيقي والغناء، ونشجي بهم، يرق شعورنا، وتترقي أحاسيسنا، وتسموأرواحنا بما نسمعه ونتلقاه . ولم يقل عاقلٌ سويُّ النفس والتفكير، باستئصال أوإلغاء النغم والموسيقي والغناء، بذريعة أوبتعلّة أن البعض مال بالغناء وانحرف به إلي غير هذه الغاية السامية، فقد كان هذا هوشأن الكلمة بعامة، ملحنة أوغير ملحنة، فهذه الكلمة هي التي صاغت القرآن الكريم والسنة النبوية، وهي التي نزلت وصيغت بها الكتب السماوية، وهي عمود الآداب الرفيع والشعر الراقي، وأداة التعبير في العلوم والآداب، وفي القصة والرواية، وفي كل صنوف التعبير التي علّمت الإنسانية وقادتها ولا تزال إلي قيم الحق والجمال والكمال.. علي أن ذات هذه الكلمة، لم تعدم علي مّر الزمن، من ينحرف بها ويسيء استخدامها، في السب والقذف والطعن والشتم والتجريح، وفي بث الكراهية والعداء، والتحريض علي الفسق والفجور، وفي الإهاجة وإشعال الفتن والحروب والخصومات والمشاحنات، وتسويد صفحات الحق والكمال . بيد أن هذا السوء في استخدام الكلمة والانحراف بها عن وظيفتها الصحيحة الواجبة، لم يبرر لعاقل أن يدعوإلي استئصال الكلمة أوإلغائها ! فإن ذات هذه الكلمة، هي التي حملت وتحمل تاريخ الإنسانية، وهي وسيلتنا في التفاهم والتخاطب والتعامل، وهي التي صاغت لنا الكتب السماوية، وأحاديث الرسل والأنبياء، وكُتبت بها شتي العلوم والمصنفات، وحَمَلَتْ وتحمل إلينا الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات، والمنطق والفلسفة والاقتصاد، والفقه والقانون، وعلم النفس والإدارة والمحاسبة المالية، وهي هي التي تُصاغ بها القوانين الوضعية، والقرارات واللوائح، وخطب الخطباء، وأقاصيص القصاص، وأشعار الشعراء، وروايات الروائيين، وإبداعات الأدباء والمفكرين، وهي هي التي تُلْقي بها الحكم والمواعظ والأوابد والأمثال . انحراف الكلمة، يستوجب الحرب علي هذا الانحراف وسوء الاستخدام وعلاجه، ولكنه لا يهز قيمة الكلمة، أويبرر استئصالها وإلغاءها، فتلك دعوة لا يتبناها إلاَّ مخّرف مجنون ! كذلك الموسيقي والغناء كذلك الموسيقي، فهي واقع سماوي وانساني رائع، يقوم بوظيفة هائلة ومطلوبة، ولا يحذف روعته من الوجود نشازٌ منحرف في استخدام الموسيقي أوالغناء لإثارة الغرائز والشهوات . المشكلة هي في هذا الانحراف، لا في أصل الموسيقي والغناء، ومحاربة هذا الانحراف لازمة وواجبة، بيد أن إلغاء الطبيعة والأصل محال، ومقاومتهما عماء وجهالة !! وأقول الطبيعة لأن الموسيقي والنغم جزء لا يتجزأ من الطبيعة، شأنهما شأن ما في الكون من إبداعات متنوعة لا ينفيها أن يخطئ البعض في تلقي دلالاتها، أويَقْصُرَ فهمُهُ عن استيعاب معناها وأثرها في التناغم مع الحياة، والارتقاء بالإنسان، الذي لا يُرقّي حواسه ومشاعره، وروحانياته نحوالكمال والجمال مثل الموسيقي الشجية البديعة والغناء الرفيع . قتل جهول ! لهذا كان جهولاً وصادمًا، أن يقدم آحادٌ بعقولهم غشاوة، علي قتل أخين شقيقين بالدقهلية من سنوات، بدعوي أنهما موسيقيان يمارسان العزف الموسيقي، وهذا في عرف القتلة معصية كبيرة تخالف الدين وشريعة الإسلام . والواقع أن أمثال هؤلاء الجهلة، هم الذين يشوهون الإسلام، وهم الذين يقتلون كل القيم الرفيعة في الدين قبل أن يقتلوا الأبرياء ويزهقوا الأرواح بدعوي أنهم حراس الدين ! رأينا ونري من يخرّجون تخريجاتٍ كفيفةٍ ضريرة، تخالف طبيعة الحياة، وتخالف الدين الذين يدعون احتكار فهمه وتخريج مبادئه وقواعده. الإسلام دين حياة، لا يحتقر الحياة ولا يزدريها، بل نزل لعمار وإعمار الحياة، وعمارة الإنسان وسعادته والارتقاء به وبضميره ومشاعره، لا للتنغيص عليه وشقوته ! ومن الظلم للإسلام، قبل أن يكون ظلمًا للإنسان والإنسانية، مصادرة الحياة أومصادرة سعادة الإنسان أواستمتاعه الاستمتاع القويم النظيف بما خلقه الله وأبدعه في الكون من إبداعات، وبما يستطيع الإنسان أن يحاكيه ليتناغما معًا في ارتقاء الحياة وارتقاء الإنسان . هذا التخريج الكفيف، والمصادرة الضريرة، يخالفان الإسلام، فيما أرجو أن استكمله في الحديث القادم إن شاء الله .