غياب التسامح في الخطاب الإعلامي، وتضخيم المطروحات بالمحرضات المستفزة خلقت فضاء شرق أوسط مستنفرا ضد الآخر المختلف، مع دوافع ومبررات شتي لتصفيته وإلغائه حتي باتت المنطقة مرتعا لجميع أشكال التعصب الديني والمذهبي الذي يصل إلي حد التصفية الدموية. وقد أسلمت الكثير من الأدمغة لدينا نفسها لنظرية المؤامرة، ولم يقتصر هذا علي الخطاب الشعبي العام بل تورط به الكثير بحيث بات هو الإطار الذي ينهي علاقتنا مع العالم، والعالم الغربي علي وجه التحديد. قرأت ان مجموعة من النشطاء الحقوقيين والمثقفين الفرنسيين يعتزمون تنظيم حملة تبرعات الهدف منها جمع التبرعات لبناء المزيد من المساجد في فرنسا، حيث يرون ان عدد خمسة مساجد مقارنة بعدد المسلمين الفرنسيين لا تمكنهم من القيام بشعائرهم بشكل روحاني مطمئن. هذه الحملة رغم أهميتها لم يسلط عليها الضوء في الإعلام العربي ولم يتطرق لها بالتفاصيل في حين ان قضية منع النقاب في فرنسا، ومنع رفع المآذن في سويسرا، وقبلها الرسومات الدنماركية المسيئة هي التي استأثرت بالواجهة الإعلامية وتم ابرازها من خلال خطاب إعلامي محرض ومستفز ومشحون بمسلماته السلبية. علي سبيل المثال الكنيسة العراقية التي حدث بها الانفجار في العراق وخلف عددا كبيرا من الضحايا، هي من أقدم مواطن اللاهوت العربي في المنطقة، والكنيسة الأشورية القديمة نشأت منذ القدم في أرض بابل، وقد ظل أهل الذمة، عبر التاريخ، يعيشون داخل مناخ من التسامح والتعايش الايجابي إلي أن ترصدت بهم مجموعة من السيارات الملغمة مؤخرا. أيضا حادث الانفجار ليلة رأس السنة أمام الكنيسة القبطية في مدينة الاسكندرية دمر بنيانا عمره آلاف السنين قوامه التعايش والتسامح اللذان اشتهر بهما أهل مصر ووادي النيل المسلمين المسالمين. ولنا في رسول الله »عليه الصلاة والسلام« أسوة حسنة، فهو لم يرغم أهل نجران علي الدخول في الإسلام بل فرض عليهم الجزية، ومقابل الجزية تعهد لهم بالحفاظ علي دينهم وحياتهم وأرزاقهم. ويروي المؤرخ أحمد أمين ان الرسول »عليه الصلاة والسلام« شهد أسقف نجران »قس بن ساعده الأيادي« وهو يخطب في عكاظ قبل البعثة، وعاد وسأل عنه، بعد فتح مكة، فقالوا له بأنه مات فترحم عليه وقال: »يبعث يوم القيامة أمة وحده«. وأشهر العهود ذلك الذي قطعه الخليفة عمر بن الخطاب مع صفروينوس بطريرك القدس في عام 836 عندما سلمه مفاتيح مدينة القدس، وقد اتضح مع الوقت مدي ما يتمتع به هذا العهد من سماحة وسمو حتي أن أحكامه عرفت بسياسة العهود. ولطالما عرف المسيحيون بأهل الذمة أو الذميين أي من لهم حق الأمان في ذمة المسلمين. وبعد الفتح الاسلامي للأقطار المجاورة بات لوجودهم تأصيل شرعي في معظم المذاهب الفقهية، وكانوا بدورهم قد أسهموا كثيرا في تأسيس الحضارة الإسلامية عبر الترجمة عن اليونانية والسريانية. أما ما يحدث اليوم من توحش ونسف وتفجير فلا علاقة له بذلك التوهج والتعايش الحضاري. خطاب التعصب الديني والمذهبي كان دائما خطابا مشتعلا ذا قابلية عالية للانفجار، حتي المطروحات العقلانية في هذا المجال تأخذ طابعا تبشيريا يقوم علي اعتلاء المنبر ومخاطبة الآخر باستثار الحقيقة المطلقة وقبول الآخر علي مضض. إن المجتمعات العربية ما برحت تخضع لبث ايديولوجي مكثف مع غياب للشفافية والمكاشفة يصاحبه استشراء للفساد الذي تسبب في هلهلة مؤسسات كثيرة في الدول العربية، وتسبب أيضا في إضعاف جودة ونوعية الخدمات التي تقدمها تلك المؤسسات. كل هذا خلق حالة من الغليان الشعبي العام، ولعل هذا هو المناخ الأمثل لظهور حركات التعصب الديني والمذهبي التي تعتبر غريبة علي تاريخ المنطقة، لكنها مؤشر علي انتكاسة حضارية كبري في المنطقة وعودة إلي زمن التوحش والبدائية والحروب الدينية.