الحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة، لا يمكن فصل وجه عن الآخر، وإذا كانت حرية التعبير والرأي حق أصيل لوسائل الإعلام، فإن الحرية تقتضي الإحساس بالمسئولية تجاه المجتمع، ومراعاة الدقة والصدق والالتزام، وعدم نشر الشائعات والأكاذيب والمعلومات المغلوطة عن وقائع وقضايا لا وجود لها، واقتحام الحياة الخاصة بحجة توفير المعلومات والأخبار للمواطن! لذا فلا يمكن أن نطلق علي التغطيات الإعلامية التي احتوت معلومات مغلوطة، وتحليلات متضاربة حول حادثتي تفجير الكنيستين حرية تعبير، كما أنه من المستحيل ادعاء أن الممارسات المهنية كانت وراء »السقطة» التي وقعت فيها جريدة »الوطن»، حينما زعمت نشر لقاء مع أسرة انتحاري كنيسة المرقسية بالإسكندرية، أو أن نعتبر هذا الكلام غير المسئول حق الجريدة في نشر المعلومات للجمهور!! يا سادة ..هل يعقل أن تستقي وسائل الإعلام معلوماتها من بيانات تنظيم »داعش» الإرهابي ؟! وتتخذ من مواقع التواصل الاجتماعي مصدرا رسميا للأخبار؟! إنني حقا أتعجب كيف تذهب »صحفية» إلي قرية صغيرة في محافظة كفر الشيخ بحثا عن أسرة رجل يدعي »أبو البراء المصري» باعتباره المتهم بتفجير الكنيسة المرقسية طبقا لرواية داعش، والشائعات المنشورة علي مواقع التواصل الاجتماعي ؟! وأن تعلن أن هذا الرجل الذي يدعي »أشرف» هو الانتحاري الذي تبحث عنه أجهزة الأمن، لمجرد أنه سافر للخارج منذ 4 سنوات، وأن ابنه الأصغر يدعي »براء»؟! ليس هذا فحسب بل إن بعض وسائل الإعلام »زادتنا من الشعر بيتا»، ونسبت تصريحات إلي مصادر رسمية، تزعم أن أجهزة الأمن تحفظت علي شقيق »أشرف» ، وأن نتيجة فحص الحمض الوراثي كان مطابقا للأشلاء التي عثر عليها للانتحاري !! ثم يتحدث شقيقه مساء اليوم نفسه مع الإعلامي عمرو أديب، وينفي أي اتصال من أجهزة الأمن به أو بأسرته !! إلي هذا الحد وصل استهتار الإعلام بمصائر البشر من أجل السبق الصحفي، وصار من حق الصحفيين إلقاء التهم جزافا علي المواطنين من أجل تحقيق انفراد أو انتصار إعلامي! ولم يقتصر الأمر علي هذا التسابق المحموم بين وسائل الإعلام علي نشر القصص المختلقة والشائعات والتحليلات، وإنما وصلت الفوضي الإعلامية إلي استباحة نشر صور أشلاء الضحايا الممزقة والدماء المتناثرة، وعرض مشاهد الجثث مرارا وتكرارا، دون أي اعتبارات إنسانية أو مهنية! كما نسبت بعض وسائل الإعلام ما يعن لها من أخبار إلي »مصادر رسمية مجهولة» في وزارة الداخلية، لتصبغ علي نفسها المصداقية والموثوقية أمام الجمهور، وجعلت كل من هب ودب خبيرا أمنيا يلقي بالاتهامات علي أجهزة الدولة! ووجهت اللوم لجهات التحقيق لأنها لم تشبع فضولهم الإعلامي، وتصدر البيانات والمعلومات بشأن التحقيقات السرية، للوصول إلي الخلية الإرهابية التي خططت ودربت ونفذت ، والتحركات الأمنية التي وضعتها لمباغتة هؤلاء السفاحين الذين ينفذون مخططا إرهابيا ممنهجا لزعزعة استقرار الدولة، وضرب وحدة وأمن الوطن! لذا أقول لمن يتباكون علي حرية الصحافة، إن تشكيل الهيئات الثلاث المعنية بتنظيم مهنة الصحافة والإعلام كان أمرا حتميا تأخر طويلا، وضرورة فرضتها الممارسات الإعلامية غير المسئولة، وغياب الضمير المهني والمعايير الموضوعية والأخلاقية التي تحكم العمل الإعلامي، وتمادي المجتمع الصحفي في نشر معلومات مغلوطة تهدم الثوابت الوطنية، وتهدد المصالح القومية! ثم من الذي قال إن الحرية تتعارض مع المهنية ؟! لقد انطوت الحرية التي منحتها الدول المتقدمة في الماضي علي ذات الممارسات الإعلامية الضارة بالمجتمع، وزادت الانتقادات لوسائل الإعلام نتيجة الإفراط في نشر الجرائم والعنف والجنس، والمغالاة في ترويج الشائعات والأكاذيب، وتناول الأخبار التي تكشف أسرارا تمس الأمن القومي، وأدي خوف الصحفيين المتزايد من تدخل الحكومة ، كاحتمال حقيقي خلال فترة القلاقل السياسية، وعدم الاستقرار الاجتماعي إلي ظهور تساؤلات حول الحد الفاصل بين الحرية والمسئولية، ومن الذي يحق له رسم هذا الخط الفاصل؟ وللحديث بقية ..