تقف مصر في هذه الأيام علي أعتاب حقبة فريدة في تاريخها القديم والمعاصر وهي هبة النيل والتي لم يرض الكثير من عشاقها بهذه التسمية وذهبوا إلي أن مصر والنيل هما هبة المولي عز وجل أما من بني مصر وعمرها فهم المصريون بشعبهم وجيشهم. ومع ذلك تبقي حقيقة هي أن هذه الصحراء الجرداء لم يكن الله ليبعث فيها هذه الحياة ويخلق فيها كل هذه المصادر التنموية دون أن يشق فيها بكامل طولها هذا الشريان الساحر الذي يحمل الماء الذي جعل منه مولاه كل شيء حي.. تتعرض الآن إلي تحديات كونية تضع أمام الماء بعض علامات الاستفهام ... ذلك لأن النيل الذي لم يتوقف عاماً عن العطاء يبدو الآن وكأن هناك ما يحد من جريانه لأن أمطار المنابع - كما يقال- يمكن أن تنخفض ويمكن أيضاً أن ترتفع ولكن انخفاضها وارتفاعها يقع تحت طائلة عدم التيقن وتواضع القدرة علي التنبؤ وانعدام الثقة بما يمكن أن يحدث في المستقبل وهناك عامل كوني آخر هو أن ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية بسبب زيادة الانبعاث من غازات الصوبة الزجاجية يكاد يكون يقينا في حدوثه ولكن لا يزال الشك يساور الكثيرين في مقداره وكميته ... أما ثالث العوامل الكونية فهو ارتفاع منسوب سطح البحر والمحيطات وهو ما سيؤدي إذا حدث - إلي إغراق مساحات شاسعة من الأراضي المنخفضة المناسيب وما يلي ذلك من القضاء علي التنمية الزراعية بها وتهجير سكانها وفقد العديد من زراع هذه الأراضي لسبل معيشتهم ومصادر أرزاقهم ولا تقتصر المحددات التي يواجهها الموقف المائي المصري علي العوامل الكونية السابق ذكرها ولكنها تمتد أيضاً إلي عوامل بشرية البعض منها خارجي النزعة والبعض الآخر داخلي الهوي.. أما المؤثرات الخارجية فتتمثل بشكل رئيسي فيما تقوم به بعض دول المنابع من حبس لمياه الأنهار الرئيسية التي تغذي نهر النيل الرئيسي الذي يصل إلي مصر ومن الطبيعي أن نشير هنا إلي ما تقوم به في الوقت الحاضر دولة أثيوبيا من بناء لسدود علي النيل الأزرق الذي يغذي النهر الرئيسي بما يزيد علي نصف إيراده الملئي الطبيعي والذي لن يقتصر علي ما تم بناؤه أو ما يجري بناؤه إنما سيمتد إلي بناء سلسلة من السدود المتتالية في المستقبل القريب أو البعيد.. كذلك فإن بعض دول الهضبة الاستوائية يدرسون بل ويقيمون السدود في أنحاء أحواض النيل دون الرجوع ولو من باب المجاملة إلي دولة المصب الرئيسية التي يعلم الجميع أن النيل يوفر لها ما يزيد علي الخمسة والتسعين بالمائة من احتياجاتها المائية. إذن فإن الضغوط الخارجية كثيرة وتحتاج إلي علاجات تستغرق الكثير من الجهد والوقت والمال.. نأتي بعد ذلك إلي الضغط الداخلي علي مرفق المياه في مصر والذي يتمثل في ثقافة الوفرة التي ينعم بها المصريون علي مر العصور ... والكثير منهم لا يدرك أن نصيب المواطن المصري من ماء النيل منذ مائتي عام كان يزيد علي العشرين الف متر مكعب وهو الآن يزيد بقليل علي نصف الألف من هذه الأمتار المكعبة أي أن هذا النصيب قد انخفض خلال القرنين الماضيين أربعين مرة.. وباختصار شديد فإن مرفق المياه في مصر يتعرض لمأزق كبير يجعل كل مهتم بهذا الأمر في موقف لا يحسد عليه وما يقوم به أصحاب القرار في هذه الأيام هو الحل الذي يحتوي علي أقل الأضرار وأخفها هو محاولة تكرار وإعادة استخدام المياه الراجعة من صرف الأراضي الزراعية ومياه الصرف الصحي المعالجة وأيضاً الصرف الصناعي المعالج ... ولكن الجميع يعلمون أن لكل من هذه الممارسات مضارها وعيوبها التي تصب في النهاية في خانة تلوث البيئة ونقل العديد من الأمراض التي تنقلها المياه ويتناقلها الأفراد من المواطنين والمواطنات.. أردنا بهذه المقدمة المستطيلة أن نصل إلي قناعة بأنه ليس أمام مصر ومواطنيها إلا باب واحد لاستدامة الحياة علي أرض الوطن ألا وهي زيادة الموارد المائية التي يمكن أن تكون بتحسين العلاقات بدول الجوار من أبناء حوض النيل ليسمحوا لنا باستقطاب الفواقد الهائلة من الأحواض الرئيسية وأهمها حوض بحر الغزال كما يمكن أن تكون زيادة الموارد بالبدء علي الفور في الإعداد لثورة في مجال إعذاب المياه والإعذاب هنا له معني واحد هو انتزاع الأملاح من مياه البحار التي تمر علي بلادنا منها البحر المتوسط والبحر الأحمر ويمر علي صحارينا منها خليجيا السويس والعقبة ليس هذا فقط ولكن الاعذاب أيضاً يشمل المياه الجوفية المسوس التي يقبع العديد من خزاناتها تحت أراضينا والتي تقل نسبة تركيز الأملاح فيها عن مياه البحر وتزيد في نفس الوقت هذه النسبة عن المياه العذبة.. إذن فإن المادة الخام للمياه العذبة موجودة ومتاحة وبالكميات التي تحتاج إليها البلاد علي مر العصور كذلك فإن تقنية استخلاص الأملاح وانتزاعها من المياه قد وصلت إلي مراحل متقدمة تبقي مشكلة الطاقة التي تحتاج إليها عمليات الإعذاب ومن حسن الطالع أن بلادنا علي مشارف انتاج من الغاز من حقول البحر المتوسط أي التي تجاور أي محطات للتحلية علي شاطيء هذا البحر كما أن بلادنا لديها إمكانيات هائلة في مجال توليد الطاقة من الشمس والرياح - يبقي بعد كل ذلك التمويل والعمالة وهي موارد يمكن أن يتكفل بها القطاع الخاص الوطني إذا ما أتاحت له الدولة فرصة الاستثمار المجزي والمفيد في هذا المجال.. من هنا فإن إعداد خارطة طريق لمستقبل إعذاب المياه في مصر يمكن أن يكون علي رأس أولويات البلاد للدخول إلي الوفرة الحقيقية في الموارد المائية والأمر يجب أن يمتد ليشمل الاجابة عن الأسئلة الآتية: 1- ما هي أنسب الطرق المتاحة علي الساحة عالمياً واقليمياً للتطبيق في مصر وهنا يبرز سهولة التقنية ومدي الحصول عليها محلياً أو استيرادها من الخارج والقدرة علي التعامل معها وإدارتها ويدخل في ذلك أيضاً قدرة البلاد المالية علي الإنفاق من حيث تكاليف الانشاء وتكاليف التشغيل والصيانة علي المدي العاجل والقصير والطويل - ومن الضروري في هذا المجال الاستفادة بخبرات الدول الأخري وكيف بدأت وكيف استمرت ولماذا نجحت ولماذا أخفقت ولا يمكن أن يتم كل ذلك بدون حصر تفصيلي لكافة الطرق المتاحة وأساسها العلمي واحتياجاتها المدخلاتية ومخرجاتها الفعلية واقتصادياتها الحقيقية. 2- قد يلي هذه الخطوة ترتيب مصر بين الدول المنتجة للمياه المحلاة والطرق المستخدمة منذ بداية تبني عمليات التحلية وحتي تاريخه والأجهزة والمعدات المستخدمة وقصص النجاح وأسباب الفشل - ومن الطبيعي هنا الاشارة إلي أن تجارب مصر السابقة في هذا المجال كانت كلها علي المستوي الصغير وربما المتناهي الصغر في بعض الأحيان أما المستقبل فقد يكشف عن مستوي أكبروربما فائق الكبر. 3- من المهم أيضاً تحديد مستوي الاحتياج والطلب علي المياه المحلاة ويكشف عن ذلك الاحتياجات المختلفة للبلاد في الأنشطة المختلفة وأهمها بطبيعة الحال مياه الشرب والاستخدام المنزلي والعام والزراعة والصناعة والسياحة وهل سيقتصر إنتاج المياه المحلاة علي استخدامات بعينها أم ستكون هذه المياه جزءا من الميزانية المائية للبلاد وتخضع بعد ذلك للتوزيع بين هذه الاستخدامات حسب الحاجة في كل نشاط علي حدة. 4- كذلك يجب أن تحدد خارطة الطريق أماكن استخدام المياه المحلاة وقد يذهب البعض إلي حقيقة أن نقل مياه النيل إلي ما يزيد عن مسافة معينة تصبح معه عملية النقل برمتها غير اقتصادية ومن ثم فإن إعذاب المياه سيكون في هذه الحالات أقل تكلفة من استخدام مياه النيل. 5- هل يحتاج الأمر إلي محطات عملاقة لإنتاج المياه المحلاة علي أن يتم نقل المياه من هذه المحطات وتوزيعها من خلال شبكة أنابيب إلي مواقع الاستخدام أم أن الأحري قيام وحدات صغيرة السعة قليلة التكاليف تستخدم محلياً دون تكبد مصروفات النقل والتوزيع. 6- ما هي المؤسسات والأجهزة القادرة علي المساهمة في تصنيع الوحدات اللازمة للتحلية وما هي الوسائل الكفيلة بتشجيع القطاع الخاص علي الدخول والاستثمار في هذا المجال. 7- ما هو الدور الحكومي الذي يمكن أن تقوم به الدولة في تنظيم هذه العملية وكيف يمكن أن يتطور هذا الدور مع الزمن وما هي خطوات التطوير والاعداد لاصلاح مؤسسي يتواكب مع ما تقوم به المؤسسات الحكومية الحالية في غياب كم جوهري من المياه المحلاة في الميزانية المائية للبلاد. 8- هل تحتاج البلاد إلي تدخل تكنولوجي من الدول الأكثر تقدماً وهل يحتاج الأمر إلي نقل تقنيات بعينها وهل من الضروري الاستعانة بخبرات الفنيين من الدول الأخري في هذا المجال. 9- ما هو البرنامج الزمني وما هي التكاليف التي يمكن أن تكون مطلوبة بناء علي هذا البرنامج محسوبة علي أساس الاحتياجات والطلب المرحلي علي المياه المحلاة طبقاً لما سبق الاشارة إليه. 10- وأخيراً وليس آخراً ما هي نوعية القضايا البيئية الناجمة عن عمليات الإعذاب وكيفية التخفيف من الآثار السلبية لها وأيضاً ما هي نوعية البعد الأخلاقي لعمليات الإعذاب ودورها في تحقيق العدالة والكفاية والمرونة في الامداد المائي لكافة المواطنين وتلافي تحميل فئة بعينها أعباء لا تستطيع تحملها مع التركيز علي عدم تحمل الدولة لاعباء لا تتناسب مع إمكانياتها وأن يكون توزيع المياه بين المواطنين علي أساس أن يدفع القادرون تكاليف الخدمة الفعلية وربما أكثر وأن يدفع ذوو الدخل المحدود أقل من التكاليف الفعلية كل حسب مقدرته.