يحكي أن تركيا حاولت في عقد الثمانينيات من القرن الماضي أن تنقل الماء إلي بعض البلاد العربية النفطية عبر ما أطلقت عليه أنابيب السلام ثم كررت المحاولة بنقل الماء في ذات العبارات التي تنقل البترول بحيث تحمل العبارة البترول من الخليج وتعود إليه محملة بالماء. وفي هذه الأثناء ابتكرت شركة كندية حقائب تحمل كميات هائلة من الماء فيما يشبه البالونات التي تطفو وهي محملة بالمياه علي أسطح البحار مما يسهل سحبها ويوفر في تكاليف الطاقة اللازمة لنقلها, وكانت تكاليف نقل المتر المكعب من الماء من المواني التركية وحتي الأراضي العربية لا تزيد علي ربع الدولار الأمريكي, في الوقت الذي كانت تكاليف إعذاب ماء البحر( التحلية) تصل إلي دولارين أمريكيين كاملين إلا أن الدول العربية وعلي رأسها المملكة العربية السعودية رفضت الفكرة واحتجت بأن الماء سلعة استراتيجية لا يمكن أن تترك لأهواء السياسة وتقلبات الاقتصاد, وأن التوقف عن الامداد لأي سبب من الأسباب لن يؤدي إلا إلي حدوث ما يعكر الصفو بين الدولة البائعة والدولة المشترية, ومن ثم جنحت معظم دول الخليج إلي القبول بالإعذاب كوسيلة للحصول علي الماء رغم ارتفاع التكاليف وبمرور الزمن ورغم الصعود الهائل في أسعار الوقود إلا أن الممارسة العملية لعمليات الاعذاب عملت علي خفض الأسعار حتي وصلت في الوقت الحاضر إلي ما يقارب نصف دولار والذي كان سيساوي تكاليف نقل المياه بالطرق التي أشرنا إليها فيما قبل لذات السبب وهو ارتفاع أسعار الطاقة. وقد كانت تركيا هي أول من رفع شعار أن الثروة البترولية في الدول العربية يقابلها ثروة مائية في البلاد التركية ومن ثم فإن مقايضة البترول بالماء أمر مشروع يعكس مصالح الطرفين. وعندما تأكدت تركيا أن العرب غير جادين في المقايضة بدأت مفاوضات شرسة مع إسرائيل, إلا أن المفاوض الاسرائيلي كان أشد شراسة خصوصا فيما يتعلق بالمال, هذا علي الرغم من حاجة إسرائيل الملحة لكل قطرة من قطرات الماء, وقد أخبرني أحد المطلعين علي شئون هذه المفاوضات أن المفاوض التركي كان شديد المراس وأن الاتفاق معه علي شراء الماء المعبأ في الزجاجات قد بدا في بعض الأحيان أسهل من الاتفاق علي شراء الماء العكر. ويبدو أن حسابات إسرائيل أيضا أوصلت إلي أن اعذاب الماء أقل كلفة من نقله. تذكرت هذه الحوارات وأنا أتدبر شئون المياه في بلادنا التي وصلت إلي مرحلة حرجة يقف فيها الامداد ثابتا عند رقم55.5 مليار متر مكعب سنويا تصل البلاد من نهر النيل بينما يزداد الطلب بشكل مطرد عاما بعد عام... فعدد السكان يزيد كل عام بمليونين من الواردين الجدد, يحتاجون حسب قول الخبراء إلي ملياري متر مكعب من المياه... إلا أن هذه الكمية لا تأتي لثبات الوارد فتكون النتيجة أن تخصم من نصيب السكان الأصليين وهكذا يقل نصيب الفرد عاما بعد عام حتي وصلنا إلي700 متر مكعب سنويا للفرد ستقل في المستقبل القريب إلي500 متر مكعب, والمجتمع المصري قبل ذلك وبعده يميل إلي ثقافة الوفرة في تداول الماء بمعني أن الاسراف في استخدام الماء نمط من الأنماط الحياتية سواء كان ذلك في المنزل أو في المصنع أو في المزرعة, ولعل ما شجع علي هذه الثقافة أن مياه الري تصل إلي رأس الحقل بالمجان. أما مياه الشرب والصناعة فإنها تقدم بأقل من ربع التكاليف الفعلية التي تتحملها الدولة, وكان المنطق السائد عند مناقشة موضوع تسعير مياه ري الأراضي الزراعية في مصر أن ذلك سيدفع دول المنابع في حوض النيل إلي المطالبة بمحاسبتهم علي الماء الذي يهطل مطرا علي أراضيهم قبل أن يصل إلي بلادنا, أما مياه الشرب والصناعة فإن الحجة كانت دائما أن الدولة تقدم الدعم للمواطن كما تقدم دعم الغذاء والطاقة والتعليم والصحة. إلا أن دوام الحال من المحال وها نحن نصل إلي مرحلة تفكر الدولة فيها بشكل جاد في جميع أنواع الدعم الذي تقدمه للمواطنين في وقت أصبح الدعم فيه يشكل عبئا يزيد علي ربع الميزانية الخاصة بالبلاد, هذا بالإضافة إلي أن علاقة مصر بدول حوض النيل وصلت إلي مستوي غير مسبوق رفضت فيه دول المنابع الاعتراف بالاتفاقيات السابقة التي ترتكن عليها مصر في الحصول علي الحصة الثابتة التي لم تعد بأي حال من الأحوال تكفي الاحتياجات الفعلية للبلاد. وأتصور أن فكر أي من السادة متخذي القرار في مصر سيتجه مباشرة إلي ما يسمي بالفرصة البديلة لمياه النيل التي لا يعلم أحد ما هي الحدود التي يمكن أن تصل إليها في ظل تعنت بعض دول المنابع, وأيضا ما يمكن أن يصيب الهطول المطري من جراء التغيرات المناخية مما قد يزيد من مخاطر الجفاف وشح المياه, والفرص البديلة أمام مصر هي السحب من الخزانات الجوفية التي تتسم بأنها غير متجددة أي أن الضخ منها لا يقبل التعويض عن طريق التغذية من الخارج, والبديل الآخر هو إعذاب المياه الذي تتمتع البلاد فيه بميزة نسبية هي وجود خزانات جوفية هائلة من الماءالذي يقل تركيز الأملاح فيه عن مياه البحر ويزيد في نفس الوقت عن الماء العذب ويطلق علي هذا النوع من الماء المسوس والميزة النسبية الأخري أنه يمكن الاستعاضة عن الوقود التقليدي الذي يستخدم في إعذاب الماء المالح بالوقود الطبيعي من الطاقة المتجددة وأهمها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. من هنا فإن علي مصر أن تفكر وتقارن بين الحصول علي ما ترغب فيه من مياه النيل التي يوجد منها علي مستوي الحوض ما يزيد بكثير علي احتياجات دوله العشر الذين زادوا إلي إحدي عشرة بدخول جنوب السودان كعضو عامل وكامل منذ أسابيع, ومعظم هذه الدول تنتمي إلي مجموعة الدول الأقل نموا والتي يقل دخل الفرد فيها عن دولار واحد يوميا وربما أقل من ذلك بكثير, علينا المقارنة بين الحصول علي احتياجاتنا من مياه النيل والحصول عليها من الخزانات الجوفية غير المتجددة واعذابها من مياه البحار أو من المخزون الجوفي من الماء المسوس. أقول هذا وأنا أعلم أن التنمية في مصر أساسها وجود ما يكفي من الماء لأن معدل انتاج محطات مياه الشرب في الوقت الحاضر يصل إلي25 مليون متر مكعب في اليوم أي ما يزيد علي9 مليارات متر مكعب في السنة, ولدينا صناعات شرهة لاستخدام المياه أهمها مصانع الأسمنت والحديد والأسمدة والسيراميك والألومنيوم والنسيج والسكر وغيرها كثير, ولدينا سياحة وصل فيها معدل الزوار من السائحين إلي نحو15 مليون سائح قضوا في بلادنا عام2010 حوالي150 مليون ليلة سياحية وينتظر أن يصل عددهم في القريب إلي عشرين مليون سائح يحتاجون إلي ملاعب الجولف وحمامات السباحة والبرك والبحيرات الصناعية ونوافير المياه ومستلزمات الفنادق من الغسيل إلي الطهو إلي التنظيف, وفي نفس الوقت لدينا نحو9 ملايين فدان من الأراضي الزراعية نأمل أن تزيد إلي11 مليون فدان بحلول عام2017, كل هذه الأنشطة تحتاج إلي الماء. وأتصور أن استمالة دول المنابع تكون أولا بتعريفها علي مواطن الضعف في منظومة الاستفادة من الماء في مصر وتكون ثانيا بأن تحصل هذه الدول علي رد جميلها بالسماح بزيادة الحصة المائية للبلاد عن الحصة التي تصل الآن والتي لم تعد تكفي, وأن تكون مصر مع هذه الدول أكثر سخاء وأكثر كرما, لأن العلاقات بين الدول المتشاطئة علي الأنهار الدولية وتلك العابرة للحدود يجب أن تقوم علي مبدأ أن المكسب والربح والفائدة والمنفعة هي دائما وأبدا لي ولك ولكل من دول الحوض ولكل شعب من شعوبها ومواطن من مواطنيها. المزيد من مقالات د. ضياء الدين القوصي