تعتبر مصر من الدول التي بدأت في إعداد وتنفيذ السياسات المائية منذ فجر التاريخ, ويتمثل ذلك في إنشاء العديد من مقاييس النيل في معابد قدماء المصريين, والتقويم الدقيق لحركة المياه في النهر للتعرف علي مواقيت ارتفاع مناسيب المياه وانحسار الفيضان. وكل ذلك ارتبط بانتاج الغذاء من الحبوب والثروة السمكية والحيوانية, وارتبط أيضا بفرض الضرائب في سنوات الوفرة المائية والامتناع عنها في سنوات الشح والندرة, كانت سياسة محمد علي المائية تتمثل في قدرة البلاد علي تحويل أكبر قدر من أراضي الزراعة البعلية علي مياه الفيضان الي زراعة مستديمة يدخل في دورتها المحصول الصيفي جنبا الي جنب مع المحاصيل البعلية التي كانت تزرع شتاء فقط عقب شهور الفيضان التي تبدأ في الصيف, وتنتهي مع بداية الخريف, من هنا كان إنشاء القناطر الخيرية والترع الصيفية بمثابة أدوات التخزين التي مكنت من التوسع أفقيا بزراعة مساحات جديدة, والتوسع رأسيا بزراعة أكثر من محصول في نفس المساحة. تتالت السياسات المائية المصرية بعد بداية القرن العشرين ليعكس كل منها أحد الأحداث المائية المهمة, فعلي سبيل المقال كان الانتهاء من إنشاء خزان أسوان(1898 1902) والتمكن من تخزين مليار متر مكعب واحد من المياه فيه ايذانابإعداد سياسة مائية عن طريق استخدام هذه المياه وحدث نفس الشيء عندما تمت التعلية الأولي لهذا الخزان, مما أدي الي زيادة سعته التخزينية الي2,5 مليار متر مكعب, فكان إعداد سياسة جديدة. كانت السياسات المصرية علي الدوام تضع الأولويات علي أساس أن تغطية البلاد بمياه الشرب النقية تأتي علي رأس القائمة, يليها متطلبات الصناعة التي كانت تتركز في مصانع النسيج ومصانع السكر, ومعاصر الزيوت وغيرها من الصناعات التي تقوم علي الإنتاج الزراعي, وما يزيد عن ذلك يوجه مباشرة الي الأنشطة الزراعية. من هنا جاءت المعادلة التي تحصل الزراعة فيها علي ما يزيد علي80% من الميزانية المائية للبلاد, وما يزيد عن ذلك, فهو لكل الأنشطة التنموية والخدمية الأخري, كذلك قامت السياسات المائية المتتالية علي مبدأ قطف الثمار الأكثر دنوا من الأرض أولا, وذلك بمعني بدء الزراعة في الأراضي المتميزة من حيث نوعية التربة واستواء الأرض وانخفاض المنسوب أولا, ثم التدرج الي الأراضي الأقل صلاحية بعد ذلك, ثم ان استخدام المياه جاء بحيث بدأ بالمياه السطحية ذات الجودة العالية أولا.. تلا ذلك استخدام المياه الجوفية العذبة.. ثم الماء السطحي والجوفي الأقل عذوبة.. ثم إعادة استخدام مياه صرف الأراضي الزراعية, ثم إعادة استخدام مياه الصرف الصحي والصناعي المعالجة.. حتي كان اللجوء الي إعذاب( تحلية) ماء البحر أو الماء المالح مما يطلق عليه( الماء المسوس). وقد انتهت السياسات المائية الي تلك التي تم عرضها عام1997 لتغطي الفترة من هذا التاريخ وحتي عام2017, والتي صدر لها تحديث في عام2009, تؤكد هذه السياسة أن للزراعة نصيب الأسد من الميزانية المائية للبلاد( نحو80%) وتوزيع الباقي علي كل الأنشطة الأخري. جدير بالذكر هنا أن الأعوام الأخيرة قد شهدت بعض الاحتكاك والتلاسن بل والتوتر بين مصر والبعض من دول حوض النيل, فهم البعض منه أن رغبة مصر في زيادة حصتها من مياه النيل لن تكون بالسهولة المتوقعة, ومن ثم فعليها أن تقنع علي الأقل في الوقت الحاضر بالحصة المقررة طبقا لاتفاقية مياه النيل(1959) والتي تبلغ55,5 مليار متر مكعب سنويا. كما أن السياسة التي تبنتها البلاد خلال القرن الماضي وحتي الآن قد لا تكون مناسبة في المستقبل القريب والبعيد. السبب في ذلك, يعود الي أن الزراعة التي تستحوذ علي ما يزيد علي80% من مياه البلاد لا تعيد الي الميزانية المالية أو الدخل القومي إلا أقل من20%, لكن الزراعة في نفس الوقت توفر40% من القوي العاملة في مختلف الميادين( العمالة الزراعية المستثمرين الملاك المستأجرين المشاركة الزراعية نقل المنتجات الزراعية بائعي الجملة والقطاعي الصناعات التي تقوم علي المنتجاتب الزراعية المصدرين...الخ). في نفس الوقت, فإن البلاد تمر بمنعطف حرج من حيث الزيادة السكانية, والتي زادت علي83 مليون نسمة تستهلك حاليا ما يزيد علي25 مليون متر مكعب من مياه الشرب النقية يوميا( نحو10 مليارات متر مكعب سنويا), ينتظر أن تزيد عن الضعف بحلول عام2030 عندما يصل عدد مواطني البلاد الي150 مليون نسمة. كذلك فإن الصناعة التي تنافس الزراعة بقوة من حيث عائد المتر المكعب الواحد والذي يزيد في الانتاج الصناعي علي عشرة أضعاف ما تنتجه نفس الكمية من المياه في الزراعة, هذا بالإضافة الي أن مياه الصرف الصحي يمكن بسهولة تجميعها واعادة استخدامها بعد معالجتها بعكس الزراعة التي يتمثل الفاقد منها بالبخر والبخر نتج بتضخم الكمية واستحالة استقطابه واستعادته. فإذا أضيف الي ذلك أن الدولة تتجه الي ما يشبه الثورة في مجال الجذب السياحي, حيث زاد عدد السائحين علي12 مليون زائر يقضون في البلاد نحو120 مليون ليلة سياحية, وتهدف الخطط المستقبلية الي زيادة عدد السائحين الي20 مليون يمكن أن يقضوا في البلاد200 مليون ليلة سياحية يحتاجون الي المياه لري ملاعب الجولف والمساحات الخضراء وحمامات السباحة ونافورات المياه, بالإضافة الي ما يحتاجه السائح من مياه الشرب والاستحمام واعداد الطعام والنظافة وغسيل الملابس والأواني, وخلاف ذلك يتضح مما سبق أن الأنشطة الصناعية والسياحية كذلك الزيادة المطردة في تعداد السكان كلها مجالات لن يكون من السهل علي متخذ القرار أن يحجم استهلاك المياه فيها ومن ثم فإن الزراعة هي النشاط الوحيد المرشح بقوة لدفع فاتورة الزيادة في هذه الاستخدامات. ولكن كيف يكون ذلك والملايين الوافدة من المصريين الجدد يحتاجون الي الغذاء والكساء, وكيف يكون ذلك وقد قررت الدولة زيادة الرقعة المنزرعة لتزيد من المنزرع حاليا والذي يزيد بقليل علي8 ملايين فدان الي ما يزيد علي10 ملايين فدان في المستقبل القريب(2017). تشير معظم التقارير الي أن الدول تبدأ دائما بالأنشطة الزراعية وبموالاة التقدم تتحول تدريجيا نحو الأنشطة الانتاجية الأخري( الصناعة مثلا) ثم تنتقل في نهاية مراحل التقدم الي الخدمات أضرب بذلك مثالا علي بعض الولاياتالأمريكية خصوصا في المناطق الغربية مثل كلورادو وكاليفورنيا التي تحولت تدريجيا من الزراعة الي الصناعة, وهي الآن في سبيلها الي هجرة الصناعة الي أسواق الخدمات والمال, كذلك فإن الجزر البريطانية كانت من أوائل الدول التي تحولت من الزراعة الي الصناعة, ويقوم الاقتصاد البريطاني في الوقت الحاضر بما يزيد علي70% منه علي تقديم الخدمات بمختلف أنواعها, هناك بطبيعة الحال فارق كبير بين الدول التي ذكرتها وبلادنا العزيزة من حيث الامكانات الاقتصادية والتطور التكنولوجي والموارد الطبيعية والبشرية, لكني لا أكاد أري أي مستقبل للزراعة في مصر دون أن تطور نفسها بشكل هائل, أليس يمكنها أن تنتج محاصيل أكثر وتزرع مساحات أكبر وتأتي بالعائد المالي الأوفر بنفس الكميات من المياه المتاحة حاليا لا بل أقل من هذه الكميات بكثير؟ ولكن ذلك لن يكون إلا بالاعتماد علي أنظمة ري أكثر حداثة وتركيب محصولي أكثر جدوي ومساحة زراعية يمكن التخلص من خلالها من التفتت المريع في الأراضي والذي وصل بالحيازة الي رقم يقل عن الفدان الواحد في المتوسط, أهم من ذلك كله أن يكون لدينا الارادة السياسية, وأن يكون لدي الزراع الوعي بما تسير عليه الأمور, وأن يكون لدي المواطن العادي الحس بما يعنيه مستقبل هذه البلاد له ولأبنائه ولأحفاده. علي الجميع أن يقروا بأن إصرار الدولة علي ألا يكون للماء المخصص للأراضي الزراعية سعر يحاسب الزارع عليه, لا يعني أن هذا الماء ليس له قيمة كمدخل أساسي ورئيسي في عملية الانتاج, ومن هنا فإذا كان من المعقول ألا يدفع صغار المزارعين أي مقابل لتقديم الخدمة المائية, فإن تقديم هذه الخدمة لكبار المزارعين والمستثمرين والمصدرين وأصحاب ملاعب الجولف ومن علي شاكلتهم من أولي القدرة المالية والثروة والغني يصبح أمرا يصعب علي الفهم والقبول, بل وقد يكون أيضا من غير المعقول اذا قدمت هذه الخدمة لهؤلاء بدون دفع المقابل المناسب والذي أظن أن الجميع سيقبل به ولن يكون هناك أي خلاف عليه.