يخطئ كثيراً من يعتقد أنه لا يوجد رابط وصلة قوية بين التداعيات والأحداث، التي تشهدها المنطقة، مثل انهيار عملية السلام، والاضطرابات وأحداث العنف في اليمن والصومال، وساحل العاج، وتقسيم السودان، وغيرها من الأحداث الملتهبة، التي تفرض علي مصر - بالذات - مزيداً من اليقظة والحذر، وهو الأمر الذي نثق في امتلاكنا القدرة علي تحقيقه، والقيام بمسئوليته في إطار منظومة متكاملة للحفاظ علي سيادة مصر وأمنها واستقرارها، والتي يوليها الرئيس مبارك كل الأهمية. غير أن تشابك الأحداث، ومحاولة البحث عن المستفيد منها، تتطلب منا درجة أعلي من اليقظة والحذر من جانب المواطنين أنفسهم، وضرورة تحول الإحساس بوجود خطر إلي سلوك وأسلوب في التعامل مع بعض الأحداث والمشاكل التي قد نواجهها، وأقصد تحديداً ما يثار اليوم حول قضية الوحدة الوطنية. نخطئ كثيراً أيضا، لو أغفلنا حقيقة التحديات الجسيمة التي تواجهها مصر. مصر الدور والريادة والتي تظل رغم أنف كل الحاقدين والموتورين، هي بوابة الأمن والاستقرار لكل المنطقة. نخطئ كثيراً إن نحن أغفلنا أن محاولات إذكاء الفتنة هي محاولات جادة، لإلهاء مصر عن دورها وقضايا أمتها في منطقة تشهد أحداثاً متلاحقة، تصبح فيها بعض الأحداث الفردية والجرائم نوعاً من الصغائر، التي يجب ألا تشدنا أو تجعلنا نغض الطرف عن محاولات النيل من مصر، ودورها وقيادتها لأمتها العربية ودورها الافريقي المهم. وهي محاولات تتجدد دائماً مع كل انطلاقة جديدة تخطوها مصر إلي الأمام. ونظرة موضوعية لكل ما حققته مصر من اصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية في عهد الرئيس مبارك، كفيلة بأن تكشف لنا أن هناك من يتربصون بهذه الانجازات، والذين يحاولون إعادة مصر إلي الوراء مرة أخري. دعونا نعترف صراحة، أن حماية الوحدة الوطنية لن تتم فقط عن طريق الحكومة وأجهزتها الأمنية وسلطاتها التشريعية، لكنها تتم بوعي الناس وإدراكهم بخطورة المرحلة والتحديات التي تفرضها، والقناعة الكاملة بضرورة المعالجة الموضوعية لبعض الحوادث التي تقع بين حين وآخر مروراً بحادث كنيسة القديسين، وحادث إطلاق النار بقطار سمالوط والتي راح ضحيتها أشقاء لنا، بغض النظر عن دياناتهم ومعتقداتهم. وبنفس القدر الذي نطالب فيه أجهزة الأمن والأجهزة القضائية بسرعة التصدي بأحكام رادعة للجناة، في أي حوادث تتعلق بالوحدة الوطنية، فإننا ندين أيضاً أي سلوك ممجوج يقوم به البعض احتجاجاً علي أي حوادث قد تقع. فبعد حادث سمالوط، الذي ألقت فيه قوات الأمن القبض علي مرتكبه خلال دقائق من وقوع الحادث قام بعض المواطنين بمظاهرات صاخبة، اعتدوا فيها علي بعض المنشآت الخاصة والسيارات، وأعتقد أن المتهمين فيها أيضاً لابد أن يلقوا العقاب الرادع والحاسم. لقد شهدت مصر بأسرها حالة من التعاطف والحزن الشديد بعد حادث كنيسة القديسين، الذي لم يعرف بعد مرتكبوه ولا دياناتهم، وأعقب الحادث مظاهرات صاخبة اعتدي فيها علي رجال الأمن وتم تدمير العديد من المنشآت، وتعاملت أجهزة الأمن مع الحادث بنوع من التعاطف والتقدير الإنساني للحادث البشع، غير أن التمادي في ذلك يمثل سلوكاً شاذاً وغير مقبول، ومرفوض جملة وتفصيلاً. أمن مصر واستقرارها لابد أن يعلو فوق كل اعتبار، لأن التعامل العاطفي والإنساني لابد أن تكون له حدود. كم أتمني أن ينال المتهم بحادث سمالوط عقاباً رادعاً وبسرعة. وكم أتمني أيضاً أن ينال مرتكبو حوادث الشغب عقاباً رادعاً في نفس الوقت. القانون والشرعية لا تعرف الأديان، ولا تفرق بينها، وحماية أمن 38 مليون مصري تفرض علينا جميعاً الانحناء لتلك الشرعية والتمسك بها، وضرب أي محاولة للوقيعة بين أبناء شعب واحد، اختلطت دماء شهدائهم الذين لو عادوا للحياة لشعروا بكم كبير من المرارة والأسي. لقد تناولت في مقالي الأسبوع الماضي، ضرورة الرد علي بابا الفاتيكان الذي يدعي زوراً وبهتاناً أنه مبعوث العناية الإلهية لحماية المسيحيين، وذلك من خلال قداسة البابا شنودة ومن خلال رجال الدين المسيحي، والذين يعرفون حقيقة ومرامي بابا الفاتيكان في فرض سيطرته علي الكنيسة الأرثوذكسية وكل طوائف الديانة المسيحية في العالم، من خلال دعاوي ممجوجة لا تمت لواقع المصريين بأي صلة. في 92 أكتوبر عام 5002، كتبت مقالا بعنوان »ياصبر أيوب« تناولت فيه بعض الأمور التي تتعلق بمحاولات الفتنة.. وعدت لنفس الموضوع، ولنفس الاقتراحات في مقالي يوم 61 يناير الماضي، وقد اسعدني للغاية الاقتراح الذي أعلنه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر بإنشاء ما اطلق عليه بيت العيلة.. وأجد انه من المناسب ان أعيد نشر ما قلته منذ 5 أعوام، لأنه - في اعتقادي - لايزال يمثل حزمة متكاملة لوأد محاولات سوف تستمر للفتنة والوقيعة.. وقد جاء في مقالي المنشور يوم 92 أكتوبر عام 5002، ما يلي: اعتقد أنه من الضروري الآن- وقبل أي وقت مضي- ان نبدأ التفكير في عديد من النقاط الجوهرية لأوجه القصور، وصولا إلي هدف ننشده جميعا يكون سدا منيعا لا ينفذ من خلاله اعداء مصر، سواء من خارجها أو داخلها، وهم كثيرون. وإذا كانت المؤسسات الدينية- سواء الإسلامية أو المسيحية- قد نجحت في إقامة روابط وصلات مع العالم الخارجي في إطار التواصل والحوار مع الآخر، فإنها مطالبة اليوم بوضع إطار جديد يحكم العلاقة المشتركة بينها، فليس منطقيا ان نكتفي بكلمات الشجب والإدانة، وتأكيد الوحدة الوطنية، ولكن يجب أن يواكب ذلك إنشاء هيئة أو مجلس مشترك يرأسه فضيلة الإمام الأكبر وقداسة البابا، ويضم نخبة من رجال الدين والفكر والقانون المسلمين والأقباط، تكون مرجعية عليا، يمكن الرجوع إليها والاحتكام إلي ما تصدره من توصيات أو أفكار، بعيدا عن أي تدخل للدولة. ان المسجد أو الكنيسة لا يمكن بأي حال من الأحوال ان يكونا بديلا عن سلطة الدولة، التي تحظر تماما - ومنذ أمد بعيد- استخدام الدين في السياسة. اعتقد ايضا انه من الضروري ان يدعو وزير التعليم نخبة متميزة من خبراء التربية والتعليم من الجانبين، يشاركون في وضع وتصويب بعض المفاهيم التربوية والتعليمية، سواء تلك التي في الكتب الدينية الإسلامية أو المسيحية، وصولا إلي جيل لا يتغني بالوحدة الوطنية، ولكنه يمارسها سلوكا وفعلا وقولا وعملا، وان تتسع المناهج التعليمية للقيم السامية والدين المسيحي، والتي لا تختلف في الهدف والمغزي، ولكن تختلف فقط في العبارات الدالة عليها. ان قانون الإرهاب الجديد الذي يتم الاعدادله بديلا عن قانون الطوارئ، لابد ان يتسع لعقوبات رادعة ضد كل من يحاول العبث بالوحدة الوطنية، قولا أو سلوكا، لان مسألة المساس أو خلق تصادم بين الأديان تمثل أقصي أنواع الارهاب الذي تحاول قلة قليلة- لا تعد علي أصابع اليد الواحدة- ان تفرضه، في محاولة مكشوفة للمساس بوطن يؤكد كل يوم قدرته وقوته المستمدة من قوة شعبه وقيادته، وما يمثله ذلك من أرق دائم لبعض القوي الخارجية، التي تسعي للهيمنة وتصدير الصراعات. وإذا كانت بعض القنوات الفضائية- للأسف العربية - قد تحولت عن سوء قصد، وأحيانا عن سوء فهم، إلي أبواق للصهيونية، وللقوي الخارجية التي تسعي للهيمنة والسيطرة علي المنطقة، من خلال ما تبثه من برامج وحوارات تهدف في أحيان كثيرة لاشعال روح الفتنة، واذكاء الخلافات الطائفية في بعض الدول، فإن الاعلام المصري- الذي يظل يفخر بانه إعلام عربي- مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضي، بتقديم رسالة جديدة قلبا وموضوعا، تتناول التجسيد الحقيقي للوحدة الوطنية المصرية، وعدم الاكتفاء بالقشور دون خوض في جوهر هذه الوحدة، والتأكيد علي أهمية ترسيخها في وجدان المصريين، لتصبح سلوكا يستطيع وأد أي محاولة لإحداث الفتنة في مهدها. وإذا كانت سلطة الدولة تظل بمنأي عن أي دور تقوم به الكنيسة أو المسجد أو كلاهما، فإن منظمات المجتمع المدني مطالبة بأن تكون هذه القضية علي رأس أولوياتها، وعدم الارتكان إلي أدوار هامشية تسعي لتأكيد وجودها الاعلامي علي الساحة، دون مشاركة فعالة ومؤثرة في التصدي لعلاج بعض المشاكل والمفاهيم الخاطئة داخل المجتمع، وخاصة بعد ان اعطت لها الدولة مساحة غير مسبوقة للعمل والتحرك، وأن تأخذ نصيبا وافرا من المشاركة في بناء مستقبل مصر. غير أن التحدي الحقيقي يتمثل في ضرورة المصارحة، والمكاشفة الكاملة لعملية المشاركة السياسية في إطار واقع يتمسك به كل المصريين من عدم اقحام الدين في السياسة.. والدستور والقانون وكل أبناء مصر، يرفضون تماما فكرة قيام أي احزاب سياسية علي أسس دينية، لتعارض ذلك مع المواثيق والشرعية الدولية، التي تنبذ التفرقة علي أسس دينية أو طبقية، وكذلك حظر قيام أي جماعات دينية بعيدا عن الالتزام بالشرعية، التي تمثل تاجا وسياجا يحمي المجتمع المصري. ان نظرة سريعة علي واقع القطاع الخاص المصري، تؤكد - بما لا يدع أي مجال للشك- ان الاشقاء المسيحيين يحتلون فيه نصيبا وافرا، وقائمة أكبر المستثمرين ورجال الأعمال في مصر، تضم عددا كبيرا من خيرة المواطنين المسيحيين، الذين يعطي لهم القانون الحق الكامل في الممارسة السياسية، في إطار واقع جديد يشهده المجتمع، متمثلا في مشاركة رجال الأعمال والقطاع الخاص في الممارسة السياسية، بما يملكونه من رصيد مادي ضخم، وايضا كثرة عددية تتمثل في العاملين التابعين لشركاتهم ومؤسساتهم، ومنهم أعداد كبيرة من المسلمين الذين يكون خيارهم لمن يرونه قادرا علي العمل والعطاء لخدمة دوائرهم بعيدا عن كونه مسلما أو مسيحيا. ان الدعاوي التي تطالب بمشاركة أعداد أكبر من الاشقاء المسيحيين في العملية السياسية، لاتزال تدور في فلك ممارسات سابقة، كان للحكومة وللنظام دور كبير في الاختيار- سواء بواسطة قوانين أو تدخل مباشر- وهو الواقع الذي تغير تماما منذ بدء حقبة التسعينيات وتسارع وتيرة الاصلاحات السياسية خلال الفترة الماضية، والتي اصبحت فيها المشاركة السياسية متاحة للجميع، ودون استثناء، وبالتالي لم يعد مقبولا أو مستساغا التطرق إلي ذلك، ونحن نناقش خطرا أكبر، ينهش في جسد ظل منذ آلاف السنين يجسد وحدة وطنية لم يعرف التاريخ مثيلا لها. ان المطالبة بتخصيص عدد من المقاعد أو المناصب لفئة ما يمثل فكرا رجعيا، ويجسد احساسا لم يعد له مبرر، ويعتبر في حد ذاته تكريسا لفكر قديم يصيب هذه الوحدة في مقتل، ويفرغها من مضمونها تماما. لاشك ان الاحداث الأخيرة المؤسفة تكشف أيضا مدي الوهن والضعف، الذي اصاب المؤسسات الدينية- سواء الإسلامية أو المسيحية- والذي يظهر بصورة مخزية في معالجة وقائع فردية، مثل رغبة أحد المسيحيين في الدخول للدين الإسلامي، والتي يتعامل معها الأزهر والكنيسة بأسلوب عفا عليه الزمن، دون الاقتناع بحقيقة هامة لابد ان تكون ماثلة للجانبين، وهي ان الدين الاسلامي أو الدين المسيحي لن يضيره كثيرا أو يفيده دخول أحد إليه أو خروجه منه، لأن الحق في العبادة والعقيدة حق مقدس للبشر في كل الأعراف والقوانين ومواثيق حقوق الإنسان، بل تبقي الحقيقة التي يؤمن بها الجانبان، وهي ان مسلما أو مسيحيا، يعرف أصول دينه وعقيدته ويتمسك بها، خير من ألف مسلم أو مسيحي لا يحملها إلا في بطاقة هويته.