وفي محاولة جادة ومخلصة حاولت قدر المستطاع ان أخرج بها عن السياق التقليدي مستهدفا تحريك الراكد في العقل والخيال المسلم ؛ خاصة أن حالتنا قد تحولت خلال العقدين الأخيرين من مجرد أزمة لا يستشعرها سوي أصحابها »المسلمين» إلي مجال صراع واسع لم تتوقف حدوده عند خط الخلاف الداخلي بينهم بل امتد ليصل إلي مساحات أكبر وأناس أكثر علي امتداد العالم ليسيطر علي الصورة والكلمة بشكل مفزع ومهدد للإسلام ذاته. .. وقد قدمت للمحاولة بمقالي السابق بعنوان »هل هي أزمة خطاب ديني أم أنيميا أفكار ؟!!» والذي طرحت فيه رؤيتي المتواضعة واقترابي من تشخيص الحالة وتحديد جوهر أسبابها واطرافها، ونستكمل اليوم المسير علي الطريق الذي نعتقده مؤديا - مع مجهودات شركاء الفكر المستنير المخلص - إلي إدارة أزمتنا مع أنفسنا ومع الآخرين بما ينقذنا وينقذ إسلامنا وحتي هويتنا مما لحق بهما من مظاهر الإساءة والتدمير المتعمد من جانب الكارهين والحاقدين وبفضل تمسكنا الجاهل بالأصيل دون تجديد ودون أن نكلف أنفسنا عناء الطرح لسبل وآليات تناسب العصر الذي نعيشه. وألفت إلي أنني - منعا للخلط - لا أتعرض للدين الإسلامي بعقيدته وفقهه، فله مشايخه الأجلاء وعلماؤه الأصفياء؛ ولن أخترع جغرافيا جديدة له فهي ثابتة ؛وانما أجتهد في إعادة رسم الخريطة ذاتها بأدوات وألوان وإشارات وحتي تقنيات تناسب عصرا مختلفا ومتشابكا بل ومعقد، لنسهل الفهم والاستيعاب لمحتواها وتفاصيلها الأصلية والأصيلة بفكر اكثر فاعلية، يستخدم كل ماهو جديد ومتاح ومتعارف عليه في هذا الزمان لدي الإنسانية جميعها متجاوزا الإثنية والعرقية والألوان وكافة الأديان سماوية كانت أو وضعية علي أي متر مربع يسكنه بشر علي وجه البسيطة ؛ لنحقق الإنسيابية والأندماج مع الجميع دون السقوط في خطيئة التصنيف أو الإقصاء، فنتقبل الآخر بما فيه، ويتقبلنا هو بما نحن عليه ؛ فنتمكن من فض إشتباكا مدمر ؛ وهذا هو جوهر مقصدنا وقمة غايتنا. وفي هذا الصدد نستدعي ابتداء ماقاله شيخنا ونبراسنا في حل اللغز الذي نكابد آلامه الآن » العز بن عبد السلام » ناكرا علي فقهاء وعلماء عصره التقليد بالنقل دون إعمال العقل أو الفكر ؛ وقد وصل به الحال إلي أن وصف ذلك ؛ أي التقليد بالنسبة للفكرة الإسلامية بأنها : »أول مظاهر إستبدال الوثن بالفكرة» ويقصد حسب فهمي أن مايتم _ آنذاك _يمثل مظهر مهما يؤكد التجمد ونهاية الإجتهاد، ولم يكتف شيخنا الجليل بالإنكار والتوصيف للحالة بل قدم جديدا يحتذي به الآن وهو المتهج في كيفية إعمال الفكر. وفي تقديري أن آفتنا هي مانعطيه من شديد الاحترام والتقدير والاعتبار لفكرة أصيلة » تاريخيا» وقد فقدت فعاليتها وحيويتها بالنقل الحرفي والاإنتقال التاريخي ؛ وكأننا نقدسها تقديسا دائما غير منتبهين وليس لدينا الجرأة لأن نتوقف لتقييم حدود فعاليتها في عصر يختلف بالكامل عن عصر نشأتها _ وهنا ألفت إلي أني أتحدث عن فكر وليس فقه _ فالفكرة لايلائمها بالضرورة العيش بنفس نضارتها في كل العصور ؛ بل قد نكتشف في عصرنا أنها غير صحيحة ؛ والخلط هنا حتما يؤدي إلي أحكام خاطئة، والمصيبة أن تصل هذه المتفجرات والألغام _ الأحكام _ إلي فئة قاصرة الفهم والاستيعاب والإدراك وعقولها خاوية وضحلة ؛ فتلحق الضرر الفادح بخلق الله والأدهي أن يمس هذا الخلط بآثاره الحكمية والتحكمية في أيدي المتخصصين فيستحيل وسيلة رخيصة في أيديهم لاغتصاب الضمائر والسيطرة علي القلوب والدفع بأصحابها إلي هاوية التسليم والتوجيه الأعمي..هذا بالضبط ما نعانيه. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن نؤكد - منعا للالتباس - أن الأفكار الصحيحة تظل محتفظة بأصالتها دائما ولكن ليس بالضرورة أن تبقي علي فعاليتها ؛ فقد تكون فكرة رائعة ولكنها لم تلق مايجعلها أكثر فعالية في عصرها ؛ فهي لا تحدث لكنها تبقي طي الصحف حتي يحين وقت يناسب خروجها بل وتفجرها ؛ فتبصر النور المستحق وتحدث تغييرا هائلا والتاريخ مليء بمثل تلك النماذج من الأفكار التي أحدثت ثورات فغيرت وشيدت او هدمت في غير أوان ولادتها. وأعني بذلك أن الأفكار لا تعتمد علي خاصيتها الذاتية بل علي قدرتها وفعاليتها داخل بيئة وإطار عام ؛ فقد تولد أفكار عظيمة ولكنها لا تناسب الزمان الذي ولدت فيه فتعيش في حالة اغتراب حتي تأتيها الفرصة في زمن لاحق فتغير عالمها للأفضل وعلي النقيض من ذلك فقد تولد فكرة او يولد حكما ويظل حبيس ماسجلت عليه وخطت به هذه الفكرة او هذا الحكم إلي ان يأتي زمن آخر فيجد البيئة المناسبة للخروج فيحدث دمارا وانكسارا شديدا وأفضل الأمثلة علي الحالة الثانية حالنا تماما، اما اعظم الأمثلة علي الحالة الأولي فهي أوربا ق19حيث أقرت وتمسكت بثلاث هي العلم والتقدم والحضارة وكانت مجرد أفكار ولدت ولكنها وضعت في مرتبة محترمة في خزائن أدبياتها وعقول مثقفيها حتي جاء ق20؛ ق21 فارستها نموذجا رائعا للأفكار الصحيحة والفاعلة. ..وهنا نأتي إلي الفكرة الإسلامية التي ولدت عظيمة وحمالة للخير لكل البشرية ؛ فهي فكرة صحيحة وذات فعالية ولذا ظلت مكسبة للأتباع ولإيمان شعوب في شتي أنحاء العالم ولكنها ظلت تخبو شيئا فشيئا حتي حانت لحظة الاستعمار التاريخية ؛ فبدأ الاحتكاك العنيف بين الحضارة الوافدة الجديدة والضمير الاسلامي في أسوأ صوره ؛ فأوربا تمسكت بقيم الفعالية التي أوردناها سابقا علي قيم الأصالة التي نتمسك بها نحن ؛ وقد كان الأوربيون اكثر وعيا حيث جمعوا بين ذاتهم باخلاقياتهم الخاصة بهم وبين النظر لعالم متمسك بفكره التقليدي ويعتبر ذلك تمسكا بأصالته وتعامل بفهم وبخبث شديد حتي انه قد استثمر في كثير من الحالات حالة الاستغراق التي كان عليها المسلمون ووقع البعض منا في شركهم دون أن يدروا او ربما ظنوا أنهم يعملون الخير فيهم » الإخوان» .. »القاعدة» .. » داعش».. وبكل اسف اسهم في خلق هذه الحالة المدهشة وتطورها من يطلق عليهم » النخبة المسلمة » خريجو الجامعات الاوربية التي ظلت بفعل فاعل لا تري بوجه واحد وقد حجب عنها الآخر فأحدث ذلك خلطا لديها رغم ان الفكرة الاسلامية واحدة حيث تميزت بالأصالة والفعالية ؛ هذا الخلط في بؤرة عقل ووجدان النخبة المسلمة في حاضرنا هي النواة التي جمعت حولها سائر دسائس ومناورات الصراع الفكري وللأسف فلدينا في مؤسساتنا العريقة والعميقة أساتذة لديهم القدرة علي الإمساك بأسرار ووسائل وكيفية إدارة الصراع ولكنهم _ بضمير غائب _ لديهم نهم الاستفادة من هذا اللبس ؛ طالما بقوا في مفاصلها بقيت المعضلة. أصبح لدينا نهايات طرفية مقيمة وتعمل بيننا من المثقفين المسلمين الذين يدهشون بكل ماهو جديد ويتغاضون عن اهمية النظر إلي حدود التوافق بين مهام مجتمع لديه أفكاره الصحيحة والفاعلة ويسعي للنهوض دون ان يفقد هويته ؛ فهم _ أي المثقفون المسلمون _ لديهم خلط ربما مقصود بين الانفتاح علي الغرب وبين تسليم القلعة طوعا للمهاجمين الذين شربوا من مائهم وسلموا لهم مسألة تغذية عقولهم ؛ كما يفعل الخونة. وعليه فإن عالمنا الثقافي في بلادنا الاسلامية تحول إلي مسرح للصراع بين الفكرة الاسلامية وفكر الغرب الفعال؛ في مجتمعاتهم منذ القرن 20؛ ولذا علينا أن نبحث في أمر الفكرة الاسلامية التي تشكل جل أفكارنا ونعيد لها فعاليتها بحيث تتمكن من احتلال المساحة التي تليق بها وسط الأفكار التي تصنع التاريخ ؛ مع الانتباه إلي ان لهذا العصر منطقه الذي يميزه ويجب أن نأخذه في الحسبان وهو ان إثبات سلامة الافكار لايقاس بالمستوي الاخلاقي أو الفلسفي بل بالمستوي العملي علي الأرض، فيقاس نجاح الافكار دائما بمدي نجاحها وماتحدثه من أثر إيجابي. وجدير بنا أن نستدعي مقولة ماوتسي تونج : » إن افضل دليل علي سلامة افكارنا هو نجاحها في الإطار الاقتصادي »..والقضية هنا ان نقبل _ كمسلمين _ او نرفض الاسلوب العلمي بل علينا أن ندافع بفهم وبوعي عن عالمنا الثقافي ضد روح التلقين والنقل الجامد. .. من هنا ؛ فليس كافيا أن نروج علي مدار اعمارنا بقدسية القيم الاسلامية - وهي كذلك بالفعل - بل من الواجب علينا ان نبحث عن الكيفية التي تجعلها اكثر فعالية وحيوية ونستنهضها من سباتها لمواجهة روح عصر معقد ومتشابك وليست لدي رواده الرغبة فينا بل أصبحنا منهم بمثابة الاعداء يرفضنا ويرفض فكرنا الاسلامي الذي نقدمه في الواقع جامدا صادما ؛ وهنا ألفت إلي ان ذلك ليس في مضمونه الدفع او المناداة بتقديم تنازلات إلي الدنيوي علي حساب المقدس ولكن تطهير وتحرير هذا الاخير من بعض ماعلق به من غرور هو بريء منه ؛ فحملة هذا المقدس وعلماؤه في غالبهم قد فقدوا القدرة علي إعادة طرحه في ثياب وبآليات جديدة تناسب بل تستجيب لروح عصر مختلف ؛ وهو امر جعل الآخر _ مسلما وغير مسلم مهتما _ ينظر إلي المقدس بغضب وتنعته بالجمود والتخلف وهو ابعد ما يكون عن ذلك ؛ وإنما حملته لمن ألم بعقولهم الجمود وبارواحهم الشرود، وتلك قضيتنا وازمتنا بل ومسئوليتنا أيضا.. فماذا نحن فاعلون ؟!!