من الذي يكتب التاريخ؟ سؤال يتردد من حين إلي آخر، وتأتي الإجابات كتيره ومتناقضة ما بين الرواة والمحققين والمؤرخين وهي صفات شاملة وغير محددة يندرج تحتها العالم والهاوي والمفكر والروائي والمنتصر، ويظل التاريخ عالقا في الأوراق والكتب لكل من يريد أن يعرف ويتعلم .. فلابد أن نقرأ. القراءة وحدها هي الطريق الأمثل للمعرفة، ومن هنا جاءت قيمة قراءة التاريخ ومعرفة الحقائق حتي نتجنب أخطاء الماضي ونتعلم من تجاربه، وقد صدر مؤخرا في هذا الصدد كتابان للمفكر والأديب توفيق الحكيم في طبعات جديدة يمثلان فترة تاريخية من أهم فترات التاريخ المصري، وهي فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر،تلك الفترة التاريخية التي مازلنا نجني أثارها حتي يومنا هذا، ليس في المناحي السياسية فقط، وإنما في سلوكيات وتعاملات البشر وكل ما هوموروث ثقافي واجتماعي من أجيال متتالية . الكتابان هما »عودة الوعي» و»وثائق في طريق عودة الوعي» اللذان صدرا عن دار الشروق حديثا. الكتاب الأول تناول فيه توفيق الحكيم فترة حكم عبد الناصر، بكل أحداثها منذ اندلاع حركة الضباط الاحرار وإطلاق اسم الثورة عليها مع تأييد توفيق الحكيم لها وتحفظه بوصفها بالثورة الذي كان يري أن فعل الثورة تصنعه جماهير الشعب مثلما حدث في فرنسا وروسيا، ولكنه تغاضي عن وصفها بالثورة كمطلب ملح للشعب، ثم أخذ يروي عن تلك الفترة وكأنه يكتب مذكراته الشخصية علي حد قوله في مقدمة الكتاب »لم يكن في عزمي ولا نيتي الإذن بنشر هذه الصفحات يوم كتبتها، ولا أطلع عليها أحدا، أردت أن أدسها بين أوراقي الخاصة وأحتفظ بها احتفاظي بشيء يخصني وحدي » ثم يعود ويقول:» وتمر الأيام، وتطلع الأجيال ولا تعرف ما تحت هذا الوشم ولا ما كان قبله ولا ما سيكون بعده . كان لابد من فتح ملف ثورة 1952بأكملها ورؤية الحقائق إذا أردنا لمصر أن تنهض علي قدميها وتسير بنفسها في طريق التقدم. وليس من الضروري بعد فتح الملف أن نحاكم ونعاقب. هذا ليس بالهدف المنتج. إن اهم هدف من هذا الذي أسميه »فتح الملف» هوفتح العيون علي الأخطاء والكوارث حتي نتجنبها ونحن نبني مصر من جديد، وحتي لا نسمح لكائن من كان بتكرارها.» وينهي كلامه في مقدمة الكتاب »بأن المهمة الكبري لحامل القلم والفكر هي الكشف عن وجه الحقيقة» يستهل الحكيم في كتابه تاريخ هذه الفترة بعنوان » عودة الروح» واصفا حال البلاد بعد قيام الثورة وجلاء الملك عن مصر وكان ذلك حلم الناس ومطلب شعبي، تتوالي صفحات الكتاب من أحداث عاشها الحكيم وتعكس صورا ومواقف للرئيس الراحل جمال عبد الناصر تتصف بالمعبود المعصوم من الخطأ رغم من تقدير الرئيس الشخصي للحكيم كمفكر في عصر الثورة، ولكن هذا موضوع خارج عن حسابات الحكيم تجاه أفعال عبد الناصر وقراراته في حروب العدوان الثلاثي وحرب 67، وفي بناء السد العالي وقرار تأميم القناة والدخول في حرب اليمن واستنزاف كل مكاسب تأميم القناة في تلك الحروب من أجل اكتساب زعامة عربية علي حد قول الحكيم، والذي وضع تساؤلا في أحد صفحات الكتاب : »ما حكم التاريخ؟ » وماذا سيقول التاريخ في كل ما جري في عهد هذه الثورة ويقول الحكيم أني أرجوأن يبرئ التاريخ عبد الناصر، لأني أحبه بقلبي ولكني أرجومن التاريخ ألا يبرئ شخصا مثلي يحسب في المفكرين وقد أعمته العاطفة المحبة للثورة عن الرؤية ففقد الوعي بما يحدث حوله، وقد عبر الحكيم عن معارضته واحتجاجه في كتبه علي الحكم المطلق علي البلاد في أعماله » شجرة الحكم »، و»السلطان الحائر» و»بنك القلق »، ثم تأتي هزيمة يونيو67 لتحطم كل الأحلام والتوقعات لجيش لا يهزم، في سرد عاطفي لا يخلومن النقد لما أحدثته الهزيمة من صراعات وتخلخل نفسي في عصب الامة، ثم قدم تقييما شارحا فيه مكاسب ثورة 52 بعيدا عن العاطفة،طارحا أسئلة كقنابل موقوته لضرورة الثورة من عدمها وما عاد علي الشعب من دمار بسبب الثورة الناصرية كما اسماها الحكيم في كتابه، وطالب بغربلة مكاسب الثورة بعيدا عن الطبل والزمر والاناشيد والاغاني والشعارات وتضخيم كلمة الناصرية كأنها نظرية ! ويشير الحكيم إلي في حالة اثبات مكاسب للثورة إلا ان هناك خسارة اكيدة وهي ضياع وعي مصر، وفي سطور الكتاب يطالب الحكيم بفتح ملف الثورة ومحاكمة كل من كان له يد في ضياع وعي الشعب بما فيهم المثقفين الذين صمتوا امام كل قضايا التعذيب والاضطهاد الفكري حينذاك » سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد فسكرنا حتي غاب الوعي ». وفي نهاية سطور الكتاب يأمل الحكيم بظهور الكاتب المنتظر الذي يفتح ملف الثورة، فهوأقدر من شيوخ الثورة يكشف كل ما احجمته الاحكام الشديدة من تكميم الافواه وتشتيت الوعي، يقول الحكيم:» إن معني عودة الوعي لمصر هواسترداد حريتها في الحكم بنفسها علي الأشياء. والجدير بالذكر أن هذا الكتاب كتبه الحكيم بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر وترك للأجيال الجديدة ان تقرأ وتبحث عن الحقيقية التي يقول انه قالها من يوم 23يوليو1952 إلي 23 يوليو1972. والكتاب يضم مجموعة مقالات متبادلة بين توفيق الحكيم والكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل حول ردود أفعال ما جاء في الكتاب حيث أكد هيكل علي اثبات أن كل ما نادي به عبدالناصر من مبادئ وأفكار هوصحيح، قائلا:» هناك أخطاء في الممارسات ولكن أين في الدنيا كلها لم تحصل أخطاء في الممارسات». من رحم هذه المناقشات تولد الحقائق ولذا وجب قراءة التاريخ من كل أطرافه. أما الكتاب الثاني الذي صدر متلازما مع »عودة الوعي» هوكتاب بعنوان » وثائق في طريق عودة الوعي » والذي جاء بعد ثورة كتابه الأول وما أحدثه من جدل بين أنصار الناصرية وحكم عبد الناصر ومن يؤيدون ما جاء في كتاب توفيق الحكيم، يقول الحكيم في كتابه الثاني:» لما كان كتابي » عودة الوعي » هوفي الأصل انطباعات وتساؤلات ودعوة إلي فتح الملفات لمعرفة الحقيقة عن فترة من تاريخ بلدنا فإن هذا الكتاب هوخطوة في طريق عودة الوعي للامة بمعرفة شيء من الحقيقة التي حجبت عن كثير من الناس. وذلك من موقع وثائق رسمية فمن استطاع الحصول علي وثيقة من الوثائق هوالذي يستطيع أن يسهم بالفعل لا بالكلام في إلقاء الضوء علي فترات التاريخ. وهذا الكتاب يضم رسالة طويلة من توفيق الحكيم إلي الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كوثيقة لها دلالتها في توضيح بعض الأمور والمواقف مرفق بها التحقيقات التي أجريت حول هذه الرسالة بالإضافة إلي رسالة كتبها الحكيم بمناسبة نقل هيكل وزيرا ونقله من مجال القلم إلي كرسي السلطة. هذه النوعية من الكتابات وأن كانت بأقلام مفكرين وأدباء وتخضع للعاطفة أحيانا، إلا انها في مواقف كثيرة تحمل بعضا من الواقع الذي عاشه المفكر ولمسه بنفسه، ويجب إعادة طبعها وعرضها ليقرأها الجيل الجديد ليعرف ويتعرف علي ما حدث وما يحدث من حولنا من أجل التعلم وتفادي الأخطاء من أجل مصر جديدة، لأن هذا هوما يصنعه فعل قراءة التاريخ.