أعتقد عن يقين، أن المؤتمر السنوي للحزب الوطني، الذي يبدأ أعماله اليوم، ينعقد في ظروف مختلفة كل الاختلاف عن مؤتمراته السنوية السابقة. وإذا كان البعض يعتقد واهماً بأن الأغلبية الساحقة، التي حققها الحزب في انتخابات مجلس الشعب، تمثل نوعاً من النجاح والطمأنينة، لأنها تعكس أحد المؤشرات المهمة في تطور الحزب، وقدرته المتزايدة علي التواجد الفعال داخل الشارع المصري. فلاشك أن هذا النجاح يلقي علي الحزب وحكومته مزيداً من المسئولية والأعباء، التي تتطلب جهداً شاقاً وعملاً دؤوباً، للتأكيد علي أنه كان أهلاً للمسئولية، والاختيار الحر من جانب المواطنين، عبر برنامج طموح، أعتقد أنه يختزل عنصر الزمن، كما أنه يتطلب موارد مالية هائلة، يصبح علينا جميعاً، مواطنين وحكومة، تدبيرها. جهد يهدف إلي تعظيم الاستفادة بالاستثمارات وترتيب الأولويات، واستكمال كل عمليات الاصلاح، والانتهاء من بعض القوانين المهمة التي تعزز مناخ الاستثمار، والتي تتجه في النهاية إلي تحقيق هدف واحد، وهو حماية الفئات غير القادرة، وترسيخ العدالة الاجتماعية كأساس مهم من أسس الحكم. لقد توقفت كثيرا أمام تصريحات السيد صفوت الشريف الأمين العام للحزب الوطني، والتي أكد فيها ان خطاب الرئيس مبارك، في الجلسة الافتتاحية لمجلسي الشعب والشوري، الأحد الماضي، سوف يصبح وثيقة ومحورا مهما لكل أعمال المؤتمر السنوي للحزب. وما أعلنه السيد صفوت الشريف، جاء انسجاما مع ردود الفعل الكثيرة، التي أعقبت الخطاب، والتي اتفقت كلها علي انه يمثل تحولا مهما، في برامج العمل الوطني خلال السنوات القادمة، ويشكل أيضا لبنة أساسية في البرنامج الرئاسي الجديد، الذي يطرحه الحزب الوطني، في النصف الثاني من العام القادم. والذي يستكمل منظومة اصلاح شامل، كان الرئيس مبارك أول من دعا إليه، وهو يسابق الزمن من أجل بناء مصر القوية، ورفع مستوي معيشة المواطنين، رغم كل الأعباء والتحديات ونقص الموارد. فرغم ان الخطاب تناول مختلف المستجدات علي الساحتين الداخلية والخارجية، إلا انه حدد بوضوح - ودون لبس - أجندة متكاملة لتحقيق البعد الاجتماعي، والاهتمام بغير القادرين، وضرورة وصول ثمار التنمية لكل مواطن. جاء الخطاب تجسيدا حقيقيا لآمال وطموحات الملايين من أبناء مصر، لأنه تحدث بلغتهم، وعبر عن مشاعرهم ومعاناتهم، واعتقد ان الكرة أصبحت الآن في ملعب الحزب الوطني وحكومته، وذلك بصياغة برامج محددة لتنفيذ هذه التكليفات، والتي ستكون دائما محلا للمتابعة الدقيقة من جانب الرئيس.
»كلنا كنا فقراء«.. عبارة قالها الرئيس مبارك، وهو يرد علي مداخلة أحد أعضاء البرلمان، والتي وجه فيها التحية والتقدير لكل ما يقوم به الرئيس من أجل أبناء شعبه، ورفع مستويات معيشتهم. عبارة تختزل مئات المعاني، التي ترصد بدقة وتكشف عن معدن أصيل لزعيم كانت حياته - كلها - من أجل شعبه ورفعة بلاده. زعيم سوف يتوقف التاريخ كثيرا أمام ما قدمه لبلاده وأمته، والذي بدأ من نقطة الصفر التي لاتزال ذكراها ماثلة أمام عيوننا. فقد كانت مصر بعد حرب أكتوبر، مثقلة بمئات الأعباء والتحديات، التي كادت تبتلع كل مواردنا، بالاضافة لفاتورة مثقلة بالديون، وبنية أساسية متهالكة، وحياة صعبة عاشها كل المصريين. لم يعرف الرئيس مبارك - وقتها- ما يطلقون عليه »استراحة محارب«، فقد جاء توليه مسئولية الحكم في مصر باجماع شعبي، لم تشهده مصر عبر كل تاريخها، بعد أن صنع لبلاده أروع انتصاراتها، ولم تكن الرئاسة بالنسبة له تشريفا أو تكريما، بقدر ما كانت تعني نوعا من المسئولية. مسئولية صانع النصر في ان يحفظ لبلاده انتصارها، ليظل رأسها مرفوعا في عنان السماء، وبالقدر الذي سجله التاريخ للرئيس مبارك، كأحد صناع النصر العظام، سوف يفتح التاريخ صفحات وصفحات يروي فيها معركة بناء، بدأت من الصفر، لتعيد وضع مصر في مكانها الصحيح. بمهارة وحنكة وذكاء صانع النصر، تمت في مصر معجزة، سوف تتعاقب أجيالنا القادمة في الفخر بها، والتوقف أمام نتائجها، وما حققته من إنجازات. لقد طرح الرئيس مبارك رؤيته من أجل تحقيق انطلاقة جديدة لاقتصادنا، ترتفع بمتوسط معدلات النمو إلي 8٪ خلال السنوات الخمس المقبلة. وقال الرئيس ان هذه الانطلاقة ليست من قبيل الأمل والتمني، وإنما تتأسس علي رؤية واضحة، وسياسات أثبتت نجاحها، وحدد الرئيس محاور أساسية تتعلق بدور الحكومة كمنظم ومراقب للأسواق، ومحفز للنشاط الاقتصادي، يشجع المستثمرين، ويذلل ما يواجهونه من عقبات.ويطرح مزيدا من التسهيلات للمستثمر الصغير، قبل الكبير، كما قال الرئيس مبارك. ولاشك ان تحقيق هذه الأهداف يتطلب مراجعة دقيقة لدور الحكومة في الأسواق، والذي حقق عديدا من النجاحات، غير انه أيضا تسبب في العديد من الاخفاقات، التي يجب عدم الوقوع فيها مرة أخري.
ان نظرة شاملة علي حالة الأسواق، خلال الشهور القليلة الماضية، كفيلة بأن تكشف أهمية دور الحكومة، ولكن في الوقت المناسب، وليس بعد وقوع الضرر!!. لقد شهدت الأسواق حالة من الفوضي، فيما يتعلق بالأسعار والغلاء، وارتفعت أسعار المواد الغذائية ارتفاعا غير مسبوق، وذلك لأن الحكومة لم تتدخل في بدايات الأزمة، وتركت السوق لقوي العرض والطلب، وهو ان كان إجراء اقتصاديا سليما في الأسواق الرأسمالية، فإنه كان يتطلب مرونة أكبر في مصر. فتفعيل عمليات قوي العرض والطلب، كأساس وحيد للأسعار، يتطلب حزمة متكاملة من الاجراءات والقوانين، كما يتطلب ثقافة خاصة لم تتوافر بعد في مصر. وهو ما يؤكد أهمية استمرار دور الحكومة علي الأقل كمراقب جاهز للتحرك، بمجرد الإحساس بإمكانية وجود أزمة. الحكومة هي أول من يعرف - مثلا - أن أسعار القمح والسكر سوف تزيد عالميا،وكان من المفترض القيام بإجراءات احترازية لمنع الانفلات الحادث في الأسعار. ودليلي علي ذلك، ان الحكومة قد تنبهت من جديد إلي دور المجمعات الاستهلاكية، كرمانة ميزان بالنسبة لأسعار العديد من السلع، واللحوم. فعندما أحست الحكومة بتزايد الأزمة، وارتفاع نبرة وحدّة الغلاء، تدخلت وتم طرح كميات اضافية من السلع بالمجمعات، أجزم أنها كانت وراء ابطاء ارتفاع الأسعار أو الحد منها، بل وانخفاضها في بعض أنواع السلع. تحقيق هذا الهدف يتطلب ثقافة جديدة، اعتقد ان الحزب الوطني مطالب اليوم بنشرها وتأصيلها، واستئصال بقايا ثقافة العصر الاشتراكي، وكفالة الحكومة لكل شيء، من المهد إلي اللحد. ثقافة جديدة نحتاجها لدي تجار مصر وكبار مستورديها، ورجال الأعمال الذين يعملون اليوم في كل شيء دون اعتراف بالتخصص في مجال معين، فمن يعمل في المقاولات، يعمل أيضا في تجارة المواد الغذائية وتجارة الإلكترونيات، بل واستصلاح الأراضي، وإقامة القري السياحية!!. ثقافة القطاع الخاص الذي لا يهدف إلي تحقيق أي رسالة، أو إضافة، باستثناء مكاسبه وأرباحه، ودخوله في موسوعة الأثرياء. ثقافة تقول للتجار ان الارتفاع المبالغ فيه في الأسعار يؤدي للكساد، وأن سرعة دوران رأس المال عنصر شديد الأهمية، بعيدا عن محاولات الاحتكار وتعطيش الأسواق، ثم فرض أسعار مبالغ فيها. ثقافة تقول للناس ان القرار بأيديهم، وأن رفع الأسعار يقابله سلوك رشيد بتخفيض حجم المشتريات، واستخدام سلاح المقاطعة لأي سلعة يتم المبالغة في أسعارها. ثقافة تقول للناس ان استمرار معدلات الزيادة السكانية الحالية، سوف يقضي علي كل بارقة أمل تراودنا في مستقبل أفضل. طالب الرئيس، في تكليفاته للحكومة، بضرورة طرح مزيد من التسهيلات للمستثمر الصغير قبل الكبير. وجاحد كل من ينكر ان الحكومة تحاول بالفعل تحقيق هذا الهدف، ولكن للأسف الشديد يتم ذلك دون وجود رؤية، أو استراتيجية واضحة المعالم لهذا التشجيع. بل ان الكارثة الحقيقية هي تعريف المستثمر الصغير، وهل توجد لدينا بالفعل مثل هذه النوعية من المشروعات المتناهية الصغر؟. للأسف الشديد، الواقع يؤكد أن معظم المشروعات الصغيرة تواجه بسلسلة غير محدودة من التعقيدات والمشاكل والمخالفات، وعدم وجود جهة وحيدة يتعامل معها المستثمر، بعيدا عن مقولة شباك واحد لانهاء كل الخدمات، التي أصبحت لبانة يلوكها بعض المسئولين، غير ان الحقيقة تقول ان هذا الشباك في حالة وجوده فإنه يقتصر فقط علي اجراءات الترخيص. لكن لا أحد يسأل عن مشاكل المستثمر الصغير بعد ذلك، والصعوبات التي يواجهها في كل شيء، وخاصة توزيع أو تسويق انتاجه، بالاضافة إلي أسلوب »سداح مداح«، والذي أدي لوجود الآلاف من المشروعات الصغيرة التي تنتج نفس السلعة، بسبب عدم وجود سياسة واضحة لتخصص المشروعات الصغيرة، وضرورة ربط انتاجها بما تحتاجه المشروعات الكبري. ان نظرة علي خريطة المشروعات الصغيرة، تؤكد ان معظمها ينتج سلعا غذائية أو سلعا استهلاكية بسيطة، ولا يشارك في انتاج سلع وسيطة أو قطع غيار، أو معدات تحتاجها المصانع الكبري.