أن يصاب الكثيرون بالإحباط من تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية في بلدان الربيع العربي بعد الاطاحة برموز الدكتاتورية فهذا امر طبيعي.. وأن يعقد البعض مقارنات بين حياتهم تحت حكم الاستبداد ومعاناتهم في ظل الأنظمة الثورية، فهذا منطقي ومشروع .. وان يتزايد الاعتقاد بفشل الثورات العربية في تحقيق الكثير من طموحات الشعوب فهذه حقيقة. لكن، أن يصل السخط و اليأس لدرجة الترحم علي عصور القهر و الطغيان فهذا هو الخط الأحمر الذي يتعين الابتعاد عنه قبل فوات الاوان. كانت البداية في مصر بظهور اتجاه مشبوه يرفع شعار "احنا آسفين يا ريس"... يستغل معاناة المصريين لكي يروج لصورة كاذبة لمبارك كزعيم ديمقراطي عظيم ويعتبر الثورة مؤامرة مجرمة يتعين اجهاضها و البكاء ندماً علي نعيم الدكتاتورية و فردوس الاستبداد و الفساد الذي تجرأ المصريون الحمقي علي اسقاطه! ومع تفاقم أحوال المعيشة في مصر بعد الثورة وصلت الصفاقة بالبعض إلي حد رفع دعوي للمطالبة باعادة المخلوع حسني مبارك إلي السلطة, وهو ما رفضه القضاء المصري, وأكدت المحكمة الادارية العليا قبل ايام أن شرعية ثورة الشعب علي نظام المخلوع تجب أي ادعاء اخر مثل ما يردده الفلول بأن مبارك لم يعلن بنفسه تخليه عن الحكم وأن نائبه اللواء عمر سليمان هو الذي أدلي بالبيان وبالتالي يجب الغاء قرار تنحي مبارك واعادته للحكم. هكذا يطرح أنصار الدكتاتورية علي الشعب صيغة جهنمية للخلاص من معاناته الراهنة هي الهروب الي الوراء بدلاً من التقدم نحو المستقبل متجاهلين حقيقة أن أهداف الثورة لم تتحقق في الأساس بسبب أخطاء و خطايا ارتكبها الثوار أنفسهم و يتعين الاعتذار عنها حتي تستمر الثورة في طريقها. نفس الظاهرة المؤلمة تكررت في تونس صاحبة أولي ثورات الربيع العربي. حيث اندلعت مظاهرات العمال في مدينة سيدي بوزيد التي فجرت الثورة و تم اقتحام مقر حركة النهضة الاسلامية و حطم المتظاهرون معداته وتجهيزاته احتجاجاً علي تدهور اوضاعهم المعيشية بعد الثورة. وكانت أقسي الهتافات التي ترددت في هذه المظاهرات هي تلك التي تطالب بعودة الدكتاتور زين العابدين بن علي لتولي الرئاسة مرة أخري و هتف المتظاهرون "بن علي.. بن علي" وهم يرفعون صورته !وكان التطور الأخطر هو ظهور الرئيس التونسي المخلوع لأول مرة منذ هروبه ليدلي بحديث لصحيفة تونسية ناطقة بالفرنسية يقسم فيه أنه لا علاقة له بالفساد ولا بقتل المتظاهرين وقمع الحريات و انه مستعد لمواجهة أي اتهامات بهذا الشأن أمام محكمة مستقلة لإثبات براءته. وقال بن علي إنه غادر تونس إلي السعودية بشكل مؤقت بدليل أنه ترك أدويته ونظاراته في القصر الرئاسي. وهو ما يعكس اعتقاده أن ثورة الياسمين ضده قد فشلت وانه يمكن ان يعود للسلطة!! وبمنتهي الوضوح، يقول الصحفي التونسي البارز العربي شويخة إن الوضع في تونس أصبح صعباً للغاية .. وإذا استمرت الاحتجاجات وفشلت الحكومة في تحقيق طموحات الثورة التونسية فإن إمكانية تسليم السلطة للجيش قد تكون هي الخطوة الاولي قبل عودة الطاغية بن علي للحكم رغم انف الثورة والثوار!. في اليمن أيضا، يحاول الماضي الاستبدادي البغيض استعادة نفوذه الذي أطاحت به الثورة اليمنية. فالدكتاتور السابق علي عبد الله صالح يصر علي استمرار رئاسته لحزب المؤتمر الشعبي العام. وعندما أكد جيرالد فايرستاين السفير الامريكي في صنعاء ضرورة رحيل صالح عن رئاسة الحزب بعد ان اطاح به الشعب من السلطة شن أنصار الطاغية هجوما علي السفير واتهموه بالتدخل في الشؤون اليمنية واثارة التوتر في البلاد. وأكدت قيادات حزب المؤتمر الشعبي العام تمسكها بما أسمته رئاسة "الزعيم علي عبد الله صالح" للحزب. هذا الموقف فسره البعض بأنه تحرك في اتجاه اعادة الدكتاتور الي الحكم في صنعاء من خلال استغلال عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي تشهده البلاد والذي تؤكد مؤشرات واضحة أنه مقصود ويتم دعمه من عناصر الفساد الداخلي وقوي إقليمية ودولية . باختصار، هناك محاولات واضحة لاعادة بلدان الربيع العربي لعصور الطغيان والدكتاتورية من خلال خلق شعور بالذنب لدي شعوب الربيع العربي علي الثورة ضد الفساد و الاستبداد ووضعها أمام خيار إجرامي بين الفوضي والعبودية.. بين الموت جوعا وتناول طعام مسموم!