من حق حكومة الدكتور أحمد نظيف أن نقول لها شكراً من كل قلوبنا. شكراً رغم كل مشاعر الضيق والضجر، التي نشعر بها من جراء تفاقم بعض المشاكل، وعدم قدرتنا كمواطنين علي التأقلم والتكيف والتعامل مع متطلبات الأسواق المفتوحة، ونظرية العرض والطلب. والدليل علي ذلك هو أننا نصرخ من جراء ارتفاع الأسعار، ونقول »إلحقينا ياحكومة«. فلاتزال بقايا عصر الاشتراكية وتسعيرة الطماطم والفجل والجرجير تسيطر علي عقولنا، وتجعلنا نلجأ للحكومة طالبين العون والمساعدة والتدخل. من حق الحكومة علينا أن نقول لها شكراً، لأنها بالفعل حققت نجاحات كثيرة لا يمكن إلا لكل جاحد أن ينكرها. وأياً ما كانت انتقاداتنا للحكومة، وعدم قدرتها علي التعامل مع بعض المشاكل والأزمات الطارئة، إلا انها بالفعل حققت نجاحات تمثل أرضية صلبة لأي حكومة تأتي بعدها. حكومة الدكتور أحمد نظيف تولت المسئولية وكانت أمامها ملفات كثيرة، تتعلق بتأهيل المجتمع لدخول عصر جديد تنتهي فيه إلي غير رجعة بقايا قوانين الاشتراكية، ومسئولية الحكومة عن كل شيء، منذ صرخاتنا الأولي يوم ولادتنا، وحتي نواري التراب. عملت الحكومة في ظل مناخ غير مسبوق من الديموقراطية والحرية، أتاح لكل المواطنين حق النقد والتعبير عن الآراء، بل والهجوم الضاري علي بعض سياساتها وتوجهاتها. وشهدت ساحات العدالة جدالاً وصخباً شديدين، تمثل في عشرات الأحكام التي مثلت كلها تحديات صعبة وعراقيل، يخطيء كل من ينكر انها أعاقت خطوات الحكومة، نحو استكمال عملية الاصلاح الاقتصادي. ولا أبالغ عندما أقول إننا أصبحنا في حاجة ماسة وبسرعة إلي إعادة صياغة العلاقة بين القضاء ومصالح الدولة، التي تعني في النهاية مصلحة المواطنين. القضاء يمثل روح العدالة التي يجب ألا تظل حبيسة لقوانين وديباجات قانونية صماء جوفاء، أمام حقيقة عالم تتسارع فيه كل القوي الاقتصادية العالمية من أجل البقاء. ليس معقولاً ولا مقبولاً، أن تتم زعزعة الثقة في الاستثمار بمصر، من خلال بعض أحكام القضاء التي تعتمد علي وجود بعض التضارب في القوانين. لقد إلتقيت في الأسبوع الماضي مع عدد من كبار المستثمرين العرب، الذين يعملون داخل مصر، وكانت شكواهم وحديثهم عن مخاوف من إلغاء بعض التعاقدات أو الاتفاقات، التي تمت معهم لأنها قد تتعارض مع بعض القوانين، وأصبحت قضية مدينتي، وتعارض قانون المزايدات والمناقصات، وقانون المجتمعات العمرانية، مثلاً بارزاً وسبباً أساسياً، لهذه المخاوف. بل إن بعضهم أعلن عن تفكيره في إبطاء حركة استثماراته لمصر. د. صدقي غاضباً : في بداية التسعينيات، حضرت اجتماعا بين المرحوم الدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء، ومجموعة من كبار تجار روض الفرج، أشهر أسواق الجملة للخضراوات والفاكهة، والذي تم نقله إلي العبور و6 أكتوبر ومايو. كان التجار يرفضون عملية النقل، ووصلت اعتراضاتهم إلي تهديد الحكومة بأنهم سوف يشلون السوق، وسيتوقفون عن عملهم، وهو ما يؤدي لأزمة خطيرة في الغذاء. طلب رئيس الوزراء أن يلتقي معهم لاقناعهم بأهمية النقل. وتحمل رئيس الوزراء بعض سخافاتهم، وكلمات التهديد التي عبر بها بعضهم عن رأيه. ومع تشدد التجار في موقفهم، تحول الدكتور عاطف صدقي إلي شخص آخر غير الذي عرفته. لم أره منفعلا مثلما رأيته في هذا اليوم. ولا أبالغ عندما أقول إنه اليوم الأول، الذي أسمع فيه صوته وقد تحول من الهدوء إلي الصراخ، وضرب ترابيزة الاجتماع بيده، وقال لهم: »سوف تنقلون بالقوة، ولو فيكم واحد شاطر ينفذ تهديده بعدم العمل والتوقف عن طرح المنتجات الزراعية، ويبقي ييجي يقابلني لو رجع لشغله أو تجارته من تاني!!«. وهمّ بالانصراف قائلا لهم: »أنا أخطأت لأنني جلست معكم«. سادت لحظات من الصمت الرهيب، وهب أحد كبار تجار روض الفرج، وأمسك برأس رئيس الوزراء محاولا تقبيلها، وهو يقول: »أوعي ياباشا تزعل مننا.. كل ما ستقوله سوف ينفذ علي الفور«. في اليوم التالي، بدأت عملية نقل سوق روض الفرج، وبكل هدوء. تذكرت هذه الواقعة، وأنا أتابع قضية الارتفاع العشوائي في أسعار بعض الخضراوات والفاكهة، بالاضافة للحوم والدواجن، وغيرها من السلع الاستهلاكية، وموقف الحكومة من هذه الارتفاعات! لقد تحركت الحكومة ولكن للأسف متأخرة وذلك بطرح كميات كبيرة من الخضر والفاكهة والمواد الغذائية في جميع المجمعات، وبأسعار تصل لنصف أسعارها بالقطاع الخاص. وساهم ذلك في تهدئة حالة البلبلة، التي سادت بسبب الارتفاع المتواصل في الأسعار. صحيح كل الصحة، ان موسم الحر الشديد، الذي تعرضت له مصر قد ساهم في خفض كميات الانتاج في العديد من المنتجات، وصحيح ان حمي الغلاء تجتاح العالم كله، وليست مصر فقط. وصحيح إننا نستورد ما يقرب من 08٪ من غذائنا من الخارج. وصحيح ان لقوانين السوق آليات، تعتمد علي العرض والطلب، وليس التسعيرة الجبرية، التي انتهي زمنها بلا رجعة. ولكن الصحيح أيضا ان الحكومة كان يجب ان تتدخل منذ بدء الأزمة، وليس بعد تفاقمها. الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء عقد عدة اجتماعات، لبحث مشكلة ارتفاع الأسعار، ولكن - للأسف الشديد - نتائج الاجتماعات لم تأت بجديد، وكانت مجرد تحصيل حاصل. تخيلوا معي لو أن أحد اجتماعات رئيس الوزراء قد تم مع عدد من كبار التجار، ويعدون علي أصابع اليدين. وتم خلاله تحذير الجميع من ان استمرار هذه الحالة المفتعلة من الغلاء، سوف يلحق الضرر بهم في النهاية. تخيلوا معي، لو أن الدكتور نظيف ضرب بيده ترابيزة الاجتماع مهددا ومتوعدا، وكله بالقانون!! لو كان قد فعل ذلك، لكان واقع الأمر قد اختلف!! لقد تأكد بما لا يدع مجالا لأي شك، ان كثرة وتعدد الوسطاء في أسواق الخضار والفاكهة، بل حتي اللحوم والدواجن، يعد هو أحد الأسباب الأساسية لارتفاع الأسعار. ان كيلو الطماطم لا يتجاوز سعره 051 قرشا داخل الحقول، مع ملاحظة ان هذا السعر مرتفع بعض الشيء، بسبب نقص الكميات نتيجة ارتفاع الحرارة. ولكن وصل السعر للمستهلك إلي 21 جنيها، نتيجة وجود من 4 6 وسطاء، فمن التاجر الكبير الذي يقوم بالشراء من الحقول، إلي تجار للجملة، ثم إلي تجار التجزئة، وهكذا.. واضافة جنيه واحد لكل وسيط يؤدي في النهاية إلي تحميله للزبون. كان من الضروري ان تتدخل الحكومة بأسلوب التاجر الذكي، حتي لو أدي الأمر إلي طرح كميات من السلع بأسعار أقل بكثير من تكلفتها الحقيقية، لمجرد وقف الارتفاع في الأسعار، والوقوف بندية أمام جشع بعض التجار، واعتقد أن ذلك تم، ولكن بعد وصول الأسعار إلي أرقام فلكية. في حالات وأزمات كثيرة، يجب علي الحكومة أن تكشف عن عينها الحمراء، وعدم الاكتفاء بشعارات جوفاء لا تقدم ولا تؤخر، وإذا كانت اقتصاديات السوق لا تعني التدخل المباشر من جانب الدولة في تحديد الأسعار، فإنها تعني سرعة الحركة في بعض الازمات، من خلال الدخول كمنافس للقطاع الخاص، ولو لفترات محددة ترتبط بأي تحرك غير مباشر للأسعار.