رغم الأساس الديني الذي قامت عليه دولة إسرائيل والذي يزعم ان فلسطين هي أرض الميعاد التوراتية، إلا أن قادة الحركة الصهيونية كانوا منذ البداية حريصين علي تحجيم البعد الديني لدولتهم والتركيز علي ما أسموه "البعد الأخلاقي" للدولة اليهودية .. لهذا السبب كان الزعماء المؤسسون لدولة إسرائيل ينتمون لليسار العلماني مثل حاييم وايزمان أول رئيس للدولة وديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء.. وحتي يتأكد هذا المفهوم حرص الإسرائيليون علي الترويج لفكرة أن دولتهم هي المجتمع الاشتراكي الوحيد في الشرق الاوسط بدليل المستوطنات الجماعية "الكيبوتزات" وهي نموذج للكوميونات الشيوعية الشهيرة وهو ما أكسبهم تعاطف جميع اليساريين في العالم وعلي رأسهم الاتحاد السوفييتي بل وبعض الشيوعيين العرب و المصريين.. وفي كل المراحل كان قادة إسرائيل حريصين علي الاستفادة من البعد الديني لدولتهم بشرط ألا يطغي علي مدنيتها. في نفس الوقت ، حاول المتشددون الدينيون الهيمنة ولكن التيارات الليبرالية والمدنية كانت قادرة علي تحجيم طموحاتهم والوقوف بسقف التنازلات التي تقدم لهم عند مستوي تمويل المؤسسات الدينية أو إعفاء المتشددين من الخدمة في الجيش الإسرائيلي أو إاتهاج سياسات عدائية ضد العرب .. ومع اشتعال ثورات الربيع العربي وتقدم التيارات الدينية صدارة المشهد السياسي في المنطقة اعتقدت القوي الدينية اليهودية أن فرصتها تقترب لاقتناص السلطة.. جوهر الخلاف بين التيارين في إسرائيل هو تمسك الليبراليين بالمجتمع المدني الذي يعطي الأولوية للقوانين الوضعية حتي إذا تعارضت مع الشريعة اليهودية ، بينما يسعي المتطرفون الدينيون لفرض سيطرتهم علي الجميع وإلزامهم بكل الطقوس والواجبات الدينية.. وتمثل المرأة أحد القضايا الخلافية الرئيسية حيث يعتبرها المتشددون مخلوقا لا قيمة له ويطالب المتشددون بمنع الاختلاط بين الرجال والنساء ، ووصلت الامور إلي حد اعتدائهم علي فتاة في الثامنة من عمرها في بلدة بيت شمش قرب القدس بحجة عدم ارتدائها ملابس محتشمة! . واعتاد المتطرفون اليهود مهاجمة غير الملتزمين بالتوقف عن ممارسة أنشطتهم الحياتية يوم السبت من كل أسبوع .وحذرت صحيفة هاارتس من الاستسلام أمام "تلك القوي الرجعية التي تسعي لفرض قيمها المتخلفة وتحويل إسرائيل إلي دولة ظلامية." . واكدت صحف إسرائيل وجود تنظيمات دينية يهودية متطرفة تنتظر "ساعة الصفر" وهو ما يعني امكانية اندلاع حرب أهلية تسفر عن تقسيم إسرائيل مما دفع بعض الليبراليين إلي الدعوة لمحاربة "آية الله كوهين"، وهو رمز للتشدد الديني اليهودي، باعتباره أخطر علي إسرائيل من نظام آيات الله في إيران.. الاحصائيات تؤكد "صعود التيارات الدينية في إسرائيل فعند إقامة الدولة كانت نسبة العلمانيين 82 ٪ من السكان اليهود وأصبحوا الآن 42 ٪ فقط بينما كان المتدينون يشكلون 18 ٪ وأصبحوا الآن 58 ٪ من الإسرائيليين ".. أحد زعماء اليهود المتشددين يقول "الليبراليون يريدوننا أن نشاهد مباريات الكرة ونذهب للمسارح والسينما ونشاهد التلفزيون ونحن لا نحب هذا ونفضل الذهاب للمعابد وتطبيق الشريعة اليهودية ". المشكلة العاجلة التي تواجهها إسرائيل الآن هي خضوع الأحزاب المدنية للجماعات المتطرفة دينيا والتي أصبحت منذ ثلاثة عقود هي العنصر الحاسم لتشكيل الحكومات الإسرائيلية . وتدرك الأوساط الليبرالية خطورة المتطرفين الدينيين الذين تزايدت اعدادهم داخل الجيش الإسرائيلي لدرجة رفض تنفيذ الأوامر التي يعتقدون أنها لا تتفق مع الدين. باختصار نار التطرف الديني لا تميز بين مجتمع وآخر.. والفارق الوحيد ربما يكمن في قدرة القوي المستنيرة علي المقاومة ومدي استعدادها للسباحة ضد التيار.