هناك ما يشبه الاتفاق بين المراقبين السياسيين علي أن الحراك الثوري في بلدان الربيع العربي، أسفر عن صعود قوتين أساسيتين إلي صدارة المشهد. الأولي هي الإسلام السياسي الذي استمد زخمه من التوجهات الطبيعية لشعوب المنطقة والظروف التي تمر بها، أما الثانية فهي التيارات الليبرالية والمدنية التي استندت إلي تفاعل طويل مع الجوار الأوروبي، كما هو الوضع في تونس، أو ميراث ثقافي وحضاري عميق تعكسه بوضوح التجربة المصرية.. في ضوء هذه الحقيقة، كان من المنطقي أن تتعاون هاتان القوتان في مصر، أو علي الاقل يتم التنسيق بينهما، لتحقيق طموحات الجماهير صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة ضد الدكتاتورية ولكنهما بدلا من ذلك اختارا طريق الصراع بهدف إقصاء الآخر والانفراد بما اعتقد كل طرف أنه ثمار الثورة التي يستحقها باعتباره الممثل الشرعي والوحيد للشعب والثورة! وقد جسدت التطورات المحزنة علي الساحة المصرية خطورة هذا المفهوم المغرق في الذاتية ليس علي الثورة فقط بل أيضا علي القوي المتصارعة التي تورطت في حرب تكسير العظام وتوجيه الضربات فوق وتحت الحزام دون أدني وعي بخطورة هذه الممارسات علي مصداقية هذه القوي أمام الجماهير أو حتي قدرتها علي الانفراد بالسلطة وقيادة الامة.. في تونس، كان الوضع مختلفا، حيث أظهرت القوي الثورية إدراكا لخطورة الدخول في صراعات خلال المرحلة الحالية، علي الأقل، والتي تتربص فيها فلول النظم المستبدة السابقة وعناصر الثورة المضادة، الداخلية والاقليمية والعالمية، بالحالة الثورية التي تعيشها.. في مواجهة هذا الخطر، طرحت القوي السياسية التونسية رؤية واعية عبر عنها الرئيس منصف المرزوقي وزعيم حركة النهضة الاسلامية التي تقود الحكومة الشيخ راشد الغنوشي بما أسمياه ضرورة تعايش الإسلاميين مع العلمانيين من خلال ائتلاف ثلاثي حاكم أو "ترويكا" تضم حزب النهضة الاسلامي وحزبين ليبراليين، هما التكتل والمؤتمر، بحيث يحافظ هذا التحالف الوسطي علي التقاليد الإسلامية وفي الوقت نفسه يعبر عن معالم المدنية والليبرالية كضرورة لا غني عنها للتقدم والتنمية. ورغم الخلافات العقائدية والسياسية، قال الشيخ الغنوشي إن المرزوقي رفيق درب في الكفاح ضد الاستبداد وأشاد بالشريك الثالث في الائتلاف مصطفي بن جعفر زعيم التكتل وأكد أن تحالف الإسلاميين والعلمانيين في تونس يمثل تجربة هي الأولي من نوعها في العالم العربي خاصة بعد أن قدم الاسلاميون تنازلات مهمة مثل عدم إدراج الشريعة في الدستور والتخلي عن نوع النظام السياسي البرلماني الذي يفضلونه والموافقة علي نظام قريب من النموذج البرتغالي. كما اتفقت أطراف الترويكا التونسية علي التعامل مع عناصر التشدد الدينية والليبرالية بالحوار وتشجيعهم علي الانخراط في الدولة. وفي نفس الوقت أعلن آخر حزب شيوعي في تونس، وهو حزب العمال، تخليه عن هويته الشيوعية وانتماءه للهوية العربية والاسلامية. . وكان أهم ما اتفقت عليه أحزاب الائتلاف في تونس أن الثورة انطلقت دون أي شعارات دينية وكانت مطالبها اقتصادية وسياسية واجتماعية وأهمها الحرية والكرامة لجميع المواطنين وبالتالي فإن تحقيق هذه المطالب هو الهدف الذي يجب ان يسعي اليه النظام الثوري الجديد.. هكذا، تنطلق تونس نحو الانتهاء من الدستور في فبراير القادم ثم إجراء الانتخابات البرلمانية في يونيو والتفرغ بعد ذلك لقضايا التنمية والسعي لتحقيق كل أهداف الثورة.. وإذا كانت الثورة المصرية قد استلهمت ثورة تونس لتطيح بالطغيان، فهل يمكن أن تكون التجربة التونسية الحالية نموذجا آخر يقتدي به المصريون أيضا للخروج من أزمتهم ام ان ثوار مصر يتمسكون بطرح نموذجهم الخاص الذي فشل في تحقيق اي انجاز وأصبح يهدد بتحويل حلم الثورة إلي كابوس؟