أقيم هدية يمكن أن يقدمها حاليا مواطن مصري الي وطنه، جامعة مصرية عصرية، قاطرة للتقدم، وشعاع من شمس يسهم في تبديد ظلمات الجهل، ربما من هنا جاء اخيار اسمها الهيروغليفي هليوبوليس مدينة الشمس.. الدراسة بدأت فعليا وعمليا الشهر الماضي، والافتتاح الرسمي تم هذا الاسبوع. عشت يومين متتاليين في النور. لا خدش رأي متخلف، ولا شعرة قنوط من مجادلات عقيم فات زمانها من عقود وبعضه من قرون.. أتيح لي خلالهما أن أشهد وأستمع نهارا بطوله لحوارات ومشاورات ومناقشات في فلسفة هذا اللون من التعليم العالي الحديث.. رؤساء جامعات أوروبية ونخب من خبراء أكاديميين أجانب ومصريين وشخصيات شتي جاءوا جميعا يحتفلون باطلاق جامعة هليوبوليس.. اليوم التالي كانت الاحتفالية تلك النخب وسط جموع الطلبة، شيء مبهج ومبشر بين غمام صرنا نصحو عليه ونمسي... مازالت مصر بخير، فهذا مواطن بادر مع عائلته، الزوجة والابن والابنة، فقدم من حر ماله هذه المنحة القيمة السخية: جامعة عصرية مخصصة لغير الربح وترفع راية التنمية المستدامة... الروتين البطيء استغرق نحو تسع سنوات حتي يصدر القرار الجمهوري لانشائها عام 2009 موافقة علي انشاء جامعة هليوبوليس لتضم تسع كليات بدأت هذا العام الدراسي بثلاث: الهندسة والصيدلة والاقتصاد... كلية الهندسة تضم فوق أقسامها المعتادة ثلاثة تخصصات لاول مرة: المياه، الطاقة، الميكاترونيكس.. غير العلوم الاجتماعية والانسانية وممارسة أحد الفنون او تذوقها وهذا ضلع من الاضلاع الثلاثة الاساسية في التعليم الحديث يطعم العلم بالبعد الروحي، فهذا ما يحفز و يعزز من التناغم الصحي للشخصية.. انه جزء مكمل لا يتجزأ من الدراسة في كل الكليات بأقسامها المتخصصة.. تنمية التذوق الفني خصوصا التذوق الموسيقي فلسفة راسخة لدي مؤسسها د. ابراهيم ابو العيش.. البعد الروحي يؤدي الي توسيع الافق والادراك ويؤدي للتفكير السليم والاندماج في المجتمع بايجابية هذا مفهوم اساسي... ثورة في التعليم الجامعي التقليدي وحدثت، واتخذت طريقها في كل مواقع التقدم في العالم، المحاضرات التقليدية المعهودة طرأت عليها الحركة، تحولت لما يشبه الحلقة، تتكون في حدود عشرين أو خمسة وعشرين طالبا علي الاكثر، اقرب الي جلسات من تفاعلات حية ومشتركة بين الطلبة والاستاذ... الطالب تحول لعنصر فاعل متفاعل، يتعلم طريقه لتحصيل المعرفة بنفسه، كيفية التفكير العلمي والتحليل النقدي يهدف الي دفعه لتشغيل العقل، والابتكار.. هذه هي كلمة السر في تقدم المجتمعات.. الابتكار يوجد حلولا للمشاكل والتحديات وهي أهم مهام الجامعة العصرية، أن تخرج مواطنين لا يكونون عبئا علي مجتمعاتهم بل يذللون لها الصعاب، وهذا لا يكون بغير تنمية القدرات وتحويلها لمهارات، وليس بغير فتح المجال لتعلم المشاركة الجماعية في البحث والعمل معا كفريق.. هذا التعاون المشترك في انجاز المهام هو بعض أهم المواصفات التي افتقدناها في المجال العلمي عندنا.. فيها يكمن السر في نبوغ علمائنا المصريين في الخارج، بينما لو ظلوا هنا لضاعت مواهبهم في الصراعات الفردية المتفشية في الاوساط العلمية وغير العلمية.. العمل في فريق يكاد يكون ماستر كي المفتاح الرئيسي للانجاز العلمي والمعرفة في هذا القرن! الدراسة التي بدأت في هليوبوليس الشهر الماضي تستمد معظم مناهجها من واقع التحديات والمشاكل المحلية المحيطة.. فايجاد الصلة بين الدراسة والبحث العلمي مع الممارسة العملية هي لب التعليم العصري، وركن أساسي في المنهج العلمي الحديث.. في الجامعة العصرية يتعلم الطالب كيف يجمع بين النظرية والتطبيق العملي، الدراسة تجمع ما بين البحث العلمي والتجربة العملية.. والطلبة خلال الدراسة يقومون بمشروعات أبحاث للشركات المتعاونة مع الجامعة تحل لهم المشاكل العارضة، لذا فالدرجة العلمية ينالها الطالب في النهاية علي قدرات البحث والابتكار المقترن بالتجربة الحية. وهذه الجامعة هليوبوليس تستهدف الحفاظ علي الكيف لا الكم، وهذا المفهوم اقرب الي ما يعرف عالميا بمراكز الامتياز Centers of Excellence وهو لون من جامعات بحثية تطبيقية تعتبر نواة الانتشار العلمي في المجتمعات التي تتطلع للتقدم بالمفهوم الحديث.. هليوبوليس مقامة علي نحو عشرين فدانا في أول طريق بلبيس الصحراوي، والحرم الجامعي عبارة عن قران سعيد بين البيئة الطبيعية الخضراء، ومباني الكليات التي تتناثر فيها لا تتعدي الطابقين، تجمع بين كل ما هو ضروري وعملي بسيط مع لمسات الذوق السليم ولا أكثر ولا اقل.. لا ترف ولا زخرف ولا تجاوز عما هو مطلوب فقط بلا زيادة أو نقصان، تذكرك بالنهج الاوروبي الذي شبع من مظاهر الابهة والترف الذي ألفوه منذ العصور الوسطي... البراح ووداعة الطبيعة المحيطة واحساس بالالفة هذا كل طابع الموقع ومسوح المكان. ولان التحاق الطالب في هذه الجامعة كما فهمت يتم بالاختيار المباشر من قبل لجنة خبراء تجري امتحانا فرديا للقدرات الشخصية، تكشف مدي تفتح الامكانيات الذهنية والمهارات التي قد تكون كامنة... لذا من أهدافها توسيع الفرصة أمام جميع الفئات الاجتماعية اذا ما توافرت فيهم الموهبة والقدرات الذهنية، فتقدم اليهم المنح الدراسية، هذا غير تسهيلات ربما يتفق عليها مع بنوك مصرية لتقديم قروض تسدد بعد التخرج.. وغير هذا وذاك حث رجال الاعمال علي تقديم منح دراسية شريطة عدم تقييد الطالب بالعمل لديهم ومرة اخري: هذه جامعة خاصة لغير اغراض الربح. وأخيرا وليس آخرا ها هو الحلم وقد أصبح علما، والرؤية التي عايشها صاحبها تبلورت وتحققت علي ارض الواقع، ود. ابراهيم ابو العيش الذي نال عام 2003 جائزة نوبل التكميليةAlternative Nobel عن أهم مشروعات يقدمها افراد في خدمة المجتمعات، يبدو وكأنه يتحدي نفسه او يتوجه الي أن يتوج حياته الحافلة بهذا المشروع الذي يتفوق فيه علي نفسه.. فهذه ليس بهبة مالية فقط، وانما رؤية وفلسفة وجهد يبذل، ورعاية من اجل بناء وطنه و.. بلا مقابل! دعوا مائة جامعة تتفتح بهذا النحو في ربوع مصر! نعتذر عن عدم نشر باقي المقالات لضيق المساحة