الليلة في ريودي جانيرو (بعد منتصف الليل بتوقيت القاهرة) تنطلق دورة الألعاب الأوليمبية وسط طوفان من الأسئلة ومن الشك والريبة حول دورة في العصر الحديث تستضيفها دولة ناشئة اقتصاديا تتحسس التكنولوجيا حتي لو كانت ذات حجم سكاني كبير وثقافة رياضية عالية في طليعتها كرة القدم.. إنها دوري «العالم الثالث» التي تتأفف منها أوروبا.. اختيار عصيب لما يمكن أن تقدمه دولة من خارج دائرة أوروبا وحيتان آسيا في أكبر وأضخم حدث رياضي علي وجه الأرض لايرتبط بإمكانات رياضية فقط ولا حتي البنية الأساسية.. بل يتطلب اكتمالا وكمالا في القدرات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية والسياسية. 18 ألف رياضي من 204 دول يحرسهم 100 ألف جندي في الشوارع وساحات المنافسة ومقرات الإقامة.. هذا العدد الهائل ليس هو كل شيء.. لأن وراءه أجهزة دولة بأكملها متفرغة لضمان نجاح الدورة.. وهي ليست بمتفرغة في حقيقة الأمر.. لأن التحديات التي تواجهها سبقت الدورة بسنوات من مثلث مرعب هو الفقر والرعب والمرض.. الفقر المتمثل في مظاهرات الاحتجاج التي كانت قد سبقت نهائيات كأس العالم 2014 لأن الشعب الفقير يسأل حكومته: لماذا نغرق في الكماليات ونحن في مسيس الحاجة لتوفير الأساسيات.. لن تزيد المناسبات الرياضية الفقراء إلا فقرا.. والغريب أن نجما شهيراً بحجم نيمار خرج وقتها وأعلن هو وآخرون أنه من منطق الفقراء المتظاهرين الثائرين والغاضبين. خريطة المتناقضات والرعب.. لأن البرازيل مثلما مثل كل دول العالم الثالث تحتضن خريطة واضحة جدا من المتناقضات.. الثراء بكل ألوانه والفقر في كل أشكاله تستطيع أن تراهما في مكان واحد.. وهو ما يعني أن السلام الاجتماعي مجروح ومضطرب ومشجع علي الجريمة.. وكثيرا ما أوردت وكالات الأنباء المهتمة بحدث عالمي بما يسبح في بحر ريودي جانيرو من الجرائم العادية وصلت إلي محاولة سرقة الشعلة الأوليمبية.. ناهيك عن الرعب الأكبر والأخطر وهو الإرهاب الذي تحول فعلا إلي ظاهرة ونية لاتفلت منه دولة متقدمة أو متأخرة.. وهو حاضر تلقائيا في الأحداث والتجمعات الكبيرة ومصدرا للخوف والقلق.. الإرهاب القادم من منظمات معروفة ومتداولة مثل داعش والقاعدة وغيرهما.. والإرهاب القادم من الأفراد الذين «يصفون» حسابات مع البشرية علي خلفية عقائدهم الخاصة دينية أو نفسية.. حتي أن الشرطة البرازيلية اعتقلت عشرة أفراد قالت إنهم يخططون لاعتداءات إرهابية خلال الأوليمبياد.. ومن المفارقات والعجائب أن الشرطة نفسها وصفت هؤلاء العشرة بالإرهابية الهواة.. وهذا يضاعف الإحساس بالقلق والخطر لأن كل من يريد أن ينتقم من العالم عليه أن يبحث عن المكان الذي يراه العالم ليقدم فيه نفسه إرهابيا أو منتقما لنفسه أو لجماعته. حدث ولا حرج والمرض.. حدث فيه ولا حرج.. يكفي أن فيروس «زيكا» عالمي بامتياز.. ويكفي أن البرازيل منشأة ومنبعه.. وأنه ليس منتشرا علي الأرض فقط بل محلقا في الفضاء بجيوش البعوض.. هو خطر مباشر تسبب في انسحاب أسماء كبيرة من الرياضيين ومهما قالت اللجنة المنظمة ومهما قالت منظمة الصحة العالمية للتخفيف من الخوف.. يظل زيكا واحدا من أكبر أعداء دورة ريودي جانيرو لأنه ببساطة مسجل 1.5 مليون إصابة حتي الآن. هذا المثلث ليس هو وحده الذي يحاصر الدورة الأوليمبية أو يطفو علي سطحها.. بل هناك تفاصيل كثيرة تقلق المشاركين يمكن تناولها فيما بعد.. وتظل السياسة لاعبا كبيرا في الأوليمبياد.. ولهذا كانت دورة ريودي جانيرو تقام بطعم الفقر والمرض والرعب، فإنهما أيضا تقام برائحة السياسة.. وقالها الرئيس الروسي بوتين مباشرة ان الحملة علي منشطات الأبطال الروس أرضيتها سياسية.. وأراد أن يلفت نظر الأوليمبية الدولة إلي أن وجود الروس مهم للغرب نفسه لأنه لا طعم للفوز وللميداليات بدون منافسة والذي سوف ينافس هو روسيا التي عادت الآن لملعب السياسة الدولية بل وعادت لملعب النفوذ العسكري بما تفعله في سوريا وما فعلته في أوكرانيا وما أنجزته لنفسها في جزيرة القرم.. وإحساس الروسي أن كراهية الغرب تزداد ولو كانت دولة أخري غير روسيا انفجرت فيها فضيحة منشطات ألعاب القوي لما اتسعت دائرة الحصار والتهديد الذي وصل إلي مرحلة طلب القصاص الجماعي بحيث تخرج روسيا كلها من الدورة. افتتاح «البهجة» وحفل الافتتاح تسيطر عليه أبرز معالم ثقافة المجتمع البرازيلي.. فكل شيء هنا مرتبط ب «السامبا».. هي البهجة التي تناسب تنظيم أعرق مناسبة رياضية وأكثرها شمولا وجاذبية من جميع العاملين أو المرتبطين أو المتابعين لكل الألعاب كافة وليس كرة القدم حتي لو كانت اللعبة الشعبية الأولي والأخيرة في البرازيل والأكثر تعبيرا عن روح السامبا التي تقدم اليوم مطربتها البارزة المتخصصة إليسا سوريس.. ولا عجب أن تكون كذلك وهي أرملة المهاجم البرازيلي السابق الشهير جدا جارنيشا المتوفي عام 1983.. وإلي جانبها تقدم 12 مدرسة «سامبا» رقصات استعراضية. وتلعب الموسيقي دوراً مهماً في إيقاع الحفل.. حتي أن الاسطورة بيليه يشارك بأغنية قام بتأليفها وتلحينها تحت عنوان «الأمل» بمساعدة من زوجته البرازيلية التي تنتمي لأصول يابانية مارسيا أوكي.. علاوة علي فقرة خاصة تقدمها «أنتيا» مطربة «الفانك» وهي نوع آخر من الموسيقي.. وتتسع دائرة استخدام الموسيقي في حفل الافتتاح عندما يقدم جيلبرتو جيل عازف الجيتار البارع فقرة غنائية بنوع جديد أيضا هو «الراب».. انه الاستغراق في البهجة التي تبلغ ذروتها بفقرة خاصة من الفنان كايتانو فيليو الذي يمزج الموسيقي بالاستعراض وهو ما جعله الأكثر شهرة في البرازيل والأكثر إبداعا بموسيقاه الجديدة «إم بي بي» المنتشرة الآن في كل أنحاء العالم.. ولا تبخل البرازيل بأي موهبة فنية تستطيع أن تمد يدها لإنجاح حفل المونديال.. ولذلك سوف تظهر عارضة الأزياء المعتزلة جيزيل بونوشين في تقديم فقرات الحفل مع الإشراف علي الاستعراضات جميعها.. ويحرص البرازيليون علي أن يقدموا المزيج من الموسيقي الحديثة والكلاسيكية لإرضاء وإمتاع كل الأذواق. مفارقات الافتتاحية ولا تخلو افتتاحية ألعاب ريودي جانيرو من مفارقات متنوعة بين الرياضة والسياسة.. ولعل أبرز مفارقة سياسية ونفسية ان الرئيس البرازيلي ميشيل تامر هو الذي سيتصدر المشهد في المقصورة وحوله 45 رئيس دولة وحكومة وعدد ضخم من الوزراء والشخصيات العالمية وهو الذي سيفتتح وتتجه إليه العدسات.. بينما الرئيسة المخلوعة ديلما روسيف لن تكون حاضرة بعد إقصائها بدواعي الفساد ليست لأنها لم تتلق دعوة بل لأنها ترفض أن تجلس الرئيسة السابقة في الصف الخلفي وهي التي جهزت بلادها للاستضافة.. إنها حالة نفسية وسياسية لافتة للنظر ومثيرة للاهتمام. ومن المفارقات أيضا أن أكثر رؤساء الدول تعلقا بالرياضة بل وممارسا لها لن يحضر حفل الافتتاح وهو فلاديمير بوتين الرئيس الروسي الذي يمارس الجودو وشغوف بمشاهدة المباريات والأحداث الرياضية.. وقريب جدا من الرياضة الروسية بكل طبائعها الايجابية والسلبية.. وهو المحفز الرئيسي لاستنهاض الهمم في تنظيم مونديال 2018.. وأخيرا هو أكثر تعليقا علي حصار بلاده في أزمة المنشطات.. تحدث أكثر من الرياضيين الروسي وحاول التدخل لتجنب حرمان جماعي من الأوليمبياد ووجه رسائل عديدة إلي الغرب وإلي اللجنة الأوليمبية الدولية تحاول الإفلات من الحملة الرياضية والسياسية.. ومن فرط غضبه وشعوره بالإهانة أوحي للمتحدث الرسمي للكرملين بأن يعلن أنه أي بوتين لن يحضر لأن لديه ما هو أهم في قائمة ارتباطاته. دلالات الأرقام والأرقام تترجم حجم الاهتمام.. قرابة «15» ألف لاعب ولاعبة سيتنافسون بأحلام كبيرة يمثلون 205 دول ويخدمهم «13» ألف متطوع وموظف.. يقيمون في31 ألف مبني سكني داخل قرية أوليمبية تضم 3604 شقق.. ومطبخ كبير يستوعب 5 آلاف فرد يتناولون الطعام في توقيت واحد.. وأبنية للألعاب الإلكترونية وعيادة كبيرة ومناطق ترفيهية ومراكز دينية لكل الأديان.. وتقترب سياحة الدورة إلي قرابة المليون شخص.. وبلغ معدل بيع التذاكر 120 ألف تذكرة في الساعة الواحدة.. وفي 15 دقيقة نفذت تذاكر حفل الافتتاح. وتبرز الأرقام في التأمين والحراسة حيث وهب الجيش البرازيلي 12 قطعة بحرية عسكرية و70 سيارة مدرعة و30 طائرة مروحية و174 دراجة نارية و1600 مركبة مدرعة. الجديد.. الغريب وما تقدمه ريودي جانيرو من جديد لا يخرج في بعضه عن إطار المفارقات.. فهي دورة ألعاب صيفية تأتي مع تباشير الشتاء.. والتباشير تمنح طقسا مثاليا بدرجة حرارة (24 نهارا و13 ليلا).. ثم هي تضم إلي الدورات الأوليمبية ضيفين جديدين مع ميلاد دولتين جديدتين هما كوسوفو وجنوب السودان.. الأسرة الأوليمبية الدولية زادت اثنين من العالم الثالث يبحثان عن تاريخ ومكان وملعب دولي.. والدورة أيضا تواكب تغيير رئاسي في البرازيل حديث العهد قبل الانطلاق بأسابيع قليلة.. وهو علي ما يبدو كان مقصودا لتوفير أكبر مساحة من الاستقرار مقاومة الاضطرابات التي لا تنقطع بسبب تراجع المستوي المعيشي في وقت تتكبد الدولة المعقدة في تركيبتها الاجتماعية مليارات الدولارات لتنظيم حدث رياضي لا يعلمون مدي الاستفادة منه.. وكما قلنا من قبل هي تجربة فريدة لاختبار قدرة دولة من الصف الثاني أو الثالث علي معايشة الأوليمبياد.. فمهما حققت البرازيل من طفرة اقتصادية في السنوات الأخيرة إلا أنها تظل تكابد مشاكل وتعقيدات العالم الثالث.. وأخيرا يبرز الإرهاب بلغته العالمية الذي اشتد عورة وزادت مخاطره في السنوات الأربع الماضية التي يشهد فيها العلم تغييرات واسعة في تضاريسه السياسية بلغت مداها مع التفتت الذي تتعرض له المنطقة العربية بالذات وتمتد اثاره لتطول كل مناطق العالم.. كل ذلك للمفارقة أيضا يحدث مع رئيس جديد للجنة الأوليمبية الدولية توماس باخ.. هو قيادي جديد مع حالة جديدة من الدورات الأوليمبية قد تبدو في بعض تفاصيلها غريبة ومثيرة للاهتمام والتسجيل. ناهيك عن أول فيروس مشهور في دورة أوليمبية هي «زيكا» وما تلاه من ثورة عارمة غير مسبوقة ضد المنشطات.. وثورة عارمة أخري ضد جماعة إرهابية تملك لأول مرة جيشا واتساعا حول العالم وهي «داعش» وهو ما دفع البرازيلي إلي نشر عدد هائل من كاميرات المراقبة في الشوارع والميادين حتي داخل الأوتوبيسات التي تنقل الضيف خاصة وأن أماكن المنافسات تبعد عن القرية الأوليمبية مسيرة ساعة ونصف الساعة. 2488 ميدالية والميدالية الأوليمبية هي كل شيء للبطل المشارك.. هي مجده وتاريخه وثمرة مسيرته كلها.. وفي «ورش» البرازيل تم صناعة 2488 ميدالية. 812 ذهبية ومثلها فضية و864 برونزية.. والمادة الأساسية في صناعة الميدالية هي الفضة التي تغطي بالذهب الخالص بما لا يقل عن 6 جرامات.. وطبعا تزيد أعداد الميداليات البرونزية عن الذهبية والفضة لأن هناك ألعاب يحصل فيها الثالث والرابع علي البرونز. والأبطال المصريون قطعوا قرابة الأربعين ساعة من القاهرة إلي ريودي جانيرو.. مرورا بأديس أبابا وساو باولو.. ما بين التحليق في الفضاء والترانزيت.. والحلم الكبير هو احتضان ميدالية تلمع علي صدر البطل.. إلا أن بلوغ الأوليمبياد في حد ذاتها حلم يراوض كل رياضي لأنه لا يتحقق إلا بإنجازات عالمية وقارية وجهد وعرق وأرقام واجب الوصول لها.. وهو ما أشار إليه هشام حطب رئيس اللجنة المصرية ورئيس البعثة.. مشددا علي أن أحلام مصر كبيرة جدا وهي ليست أحلام السراب بل مرتبطة بواقع وتجربة من خلال مشاركة أبطالنا في المنافسات المؤهلة لريو دي جانيرو.. هناك خطوة تحققت بإرسال أكبر بعثة رياضية مصرية نجح أفرادها في نيل الشرف الأوليمبي.. لكن لم يتوقفوا عند محطة الشرف الأوليمبي فقط ولدي الكثير منهم طموحات تحولت إلي أحلام.. ونحن في انتظار حصاد ما زرعناه. التأفف الأوروبي ولم تخف أوروبا تأففها من «دورة العالم الثالث».. وفتحت استراليا لها الباب لتعلن تأففها علي الملأ.. عندما خرجت رئيسة البعثة الاسترالية وشنت هجوما عنيفا علي المنظمين ناقلة إليهم ما شهدته في القرية الأوليمبية من أرضية قذرة وأسلاك كهربائية مكشوفة ومياه متسربة من الأسقف وعالقة علي الجدران ومتجمعة كالبحيرات علي الأرض.. والمراحيض المسدودة والسلالم المظلمة ورائحة الغاز الحادة.. وصف قاسي للقرية الأوليمبية سارت وراءه وفود أخري خاصة انجلترا ونيوزيلاندا.. قابلته اللجنة المنظمة بفزع ووعود بإصلاحات فورية وتجهيز كل شيء قبل الإقامة الكاملة بحيث لا تري الأعين أي عيوب أو خلل في الأبنية المترامية التي تحتضن آلاف الرياضيين ورصدت لحل كل هذه المشاكل 630 حرفيا ومهنيا.. واطمأنت علي أجهزة مقاومة البعوض.. واللجنة المنظمة «محشورة» بين مطالب الوفود وبين مطالبها هي من الدولة التي تطاردها الأزمات مما اضطرها إلي إطلاق تحذيرات من التظاهرات خلال الدورة أو أية أعمال جماعية متمردة علي الأوضاع تتنافي مع الدعوة لاعتبار الأوليمبياد مهمة قومية برازيلية.