أخطر ما يمكن أن يصيب أمة، هو انعدام الثقة في قضائها، وقضاء مصر الشامخ عاش علي مدي تاريخه رمزا للعدالة والنزاهة والشموخ، وحتي في سنوات الظلام التي مرت بمصر علي فترات متعددة، ظل القضاء المصري صامدا لا يحيد عن الحق والعدالة، وفي الستينيات عندما فشل جمال عبدالناصر في السيطرة علي رجال القضاء لتحقيق أغراضه، قام بمذبحته الشهيرة التي سميت في ذلك الوقت »مذبحة القضاء«، وكان قد قام بمحاولة أخري في بداية فترة حكمه أوائل الخمسينيات، وعندما فشل ارسل مجموعة من البلطجية للاعتداء علي الرجل العظيم الدكتور عبدالرزاق السنهوري »باشا«، الذي كان يمثل رمزا وفخرا للقانون في مصر والعالم.. وفيما بين هاتين الواقعتين استغل عبدالناصر المحاكم الاستثنائية والقضاء العسكري لتنفيذ أغراضه والتخلص ممن كان يراهم أو يتوهمهم خصومه السياسيين، بداية من إعدام الشابين الصغيرين خميس والبقري 18 و19 سنة في كفر الدوار، لإرهاب جموع العمال في مصر، ومرورا بإعدام الرجال العظام الدكتور عبدالقادر عودة ورفاقه في الخمسينيات، والشهيد سيد قطب في الستينيات، بالإضافة إلي عشرات الآلاف من المصريين من مختلف الفئات والاتجاهات الذين دفع بهم إلي السجون والمعتقلات! وإذا كانت مصر تمر هذه الأيام بفترة صعبة من تاريخها، بعد ثورة »25 يناير«، التي دفعت خلالها وبعدها الثمن غاليا من خيرة شبابها الذين سقطوا ما بين شهداء وجرحي.. فإن المؤكد أن جراح المصريين قد زادت بسبب أحكام البراءة المتعددة في كل قضايا الاعتداء علي الثوار والمتظاهرين، والتي كان آخرها القضية التي عرفت باسم »موقعة الجمل«، والتي لم يصل إلي يقين المحكمة سقوط شهداء في ذلك اليوم »2 فبراير 2011«، بالرغم من أن الكثيرين ممن شهدوا وتواجدوا في ميدان التحرير في ذلك اليوم، اكدوا سقوط شهداء عديدين.. وقد صدمتني كما صدمت الملايين من المصريين أحكام البراءة التي شملت المتهمين في كل القضايا، وكأن »اللهو الخفي«، هو الذي قتل الثوار، أو كأن ما حدث كان مجرد حلم أو فيلم سينمائي.. ومع ذلك فإنني لم أفقد ثقتي في القضاء المصري وأحكامه، وأنا علي يقين بأن القضاة حاولوا بقدر ما وسعهم أن يتحروا العدل والعدالة، وجاءت أحكامهم عنوانا للحقيقة التي تضمنتها أوراق القضية الموجودة أمام القاضي الذي لا يستطيع أن يحيد عنها.. وهذا يعني أن هناك أخطاء شابت عمليات التحري التي قامت بها أجهزة الأمن، وهذا مؤكد من اناس شاركوا في الأساس في حزب المتظاهرين، وأيضا التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة أو قضاة التحقيق!! وإذا كنت ألتمس العذر للقضاء، فإنني أيضا ألتمس العذر للغضبة الشعبية العارمة.. وأعتقد أن الأمر الآن أصبح بين يدي الرئيس محمد مرسي الذي وعد بالقصاص للشهداء، وباتخاذ الاجراءات الكفيلة بذلك، والكفيلة أيضا باستمرار الثقة في قضاء وقضاة مصر.. فلو ضاعت هذه الثقة، لضاع منا الكثير من أحلامنا وآمالنا في مستقبل أفضل.