للعبادات مقاصد وثمرات وغايات، لابد من التفتيش عنها، والتنقيب عليها، ومراقبة مدي تحققها وحصولها عند القيام بالعبادة، لأن العبادات بأنواعها المختلفة تشبه بذورا، لابد لها من أن تنبت وتورق وتنمو، حتي تصبح شجرة وارفة، تؤتي ثمارا، ونحن يصيبنا القلق علي زروعنا إذا تأخر ثمرها، وتلك المقاصد والثمرات هي التي تبني الإنسان النبيل الراقي، الذي يعرف الله تعالي ويحبه، ويبني الحضارة، ويعمر الأرض. ومن أجلِّ ثمرات العبادات الحية المتوهجة علي الإطلاق أنها تملأ نفس صاحبها بالاستمرار، والديمومة، والمواصلة، والمتابعة، والأداء الكامل المتقن لأركانها، وسننها، وهيئاتها، مع الحذر من الفتور، والانقطاع، والتوقف، ومع الحذر كذلك من الإخلال بهيئاتها، وسننها، وآدابها، بل مع الترقي في معارج الإتقان المتزايد لها، الناشيء من طول المعايشة، وتمام الإحسان في الأداء، حيث تغرس العبادات الحية في النفس قيمة الاستمرار فيها طوال العمر، والمواظبة عليها في ذاتها، وفي آدابها وسننها، لأنها من أشرف مقاصد الحياة، ولأنها شريان النور والبصيرة فيها، فتتولد من ذلك كله قيمة أصيلة في النفس، وهي قيمة التعلق بالكمال في كل شيء، حيث تتحول قضية الاستمرار والدوام والمواظبة من سِمَةٍ خاصة بالعبادة، إلي أن تتسع وتتحول إلي منهج حياة، فإذا بالعبادات قد خلعت علي النفس فكرة الأداء المتقن المحكم لكل شيء، والمداومة والمواظبة في كل شيء، والحذر من الخلل والانقطاع في كل شيء، من شئون الدين والدنيا، ومن أمور حركة الحياة، وتسيير المعيشة، ومن أمور القراءة والتعلم والفكر، فكما أن الإنسان يتعايش مع العبادات بنَفَسِ المحبة والإتقان والإكمال لأعدادها وهيئاتها وشروطها وأركانها، فإنه بالتدريج يستلهم هذا المعني في أعماله، وتجاراته، وإدارته لشركاته، ونهوضه بمؤسساته، وأهداف حياته كلها، ويرتفع عن نفسية الذاتية والأنانية، التي تجعل فكره ومشاريعه كلها تتمحور حول ذاته هو، إنه يتعلم من العبادات فكرة الإكمال، والإتمام، والإتقان، والاستمرار، وعدم الملل والفتور. ومن أهم ثمرات العبادة علي الإطلاق أنها معراج سكينة في وقت الفزع، تسري به نسائم اللطف في أوقات الضيق، ويستشعر الإنسان في أوقات الاضطراب، والخوف أنه يركن ويحتمي بقيوم السموات والأرض، ومالك الأمر، وأن له ربّاً يسكن إليه، ويدعوه دعاء المضطر الوَجِلِ فيستجيب، روي أحمد وأبوداود بسندٍ حَسَنٍ وابن جرير عن حذيفة بن اليمان أن النبي، صلي الله عليه وسلم، كان إذا حَزَبه (أي: ألمَّ به) أمرٌ فزع إلي الصلاة، وروي أيضا عن علي، رضي الله عنه، أنه كان يقول: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله، صلي الله عليه وسلم، يصلي ويدعو، حتي أصبح، وقال الله تعالي: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ»، فما التوجيه الإلهي في مثل أوقات الضيق وانقباض الصدر؟ قال سبحانه بعدها مباشرة: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ». ومن أهم ثمراتها علي الإطلاق: الأمل، حيث إنها تعلم الإنسان ألا يصاب باليأس أبداً، وألا يستسلم لإحباط أو قنوط، لأنها تربطه دائماً برب غفور، حليم، ولأنها تجدد معرفة الإنسان بربه سبحانه، فيخرج بها الإنسان من أوهامه وعلله النفسية إلي حال السكينة، ويخرج بها من ضيق نفسه إلي سعة ربه، فيبقي دائماً حر الضمير، صاحب أمل متجدد، غير مكبّلٍ ولا مثقل، يزرع في الناس من حوله الثقة في الله تعالي، والثقة في لطفه وحكمته وجميل تدبيره، فيكون مصدر سكينة وأمل للناس جميعاً، يجدد في نفوسهم الهمة، ويدفع عنهم أثقالهم النفسية، ولا شك أن هناك أحوالاً كثيرة جداً، ينخفض فيها الإيقاع الحيوي للإنسان، ويهوي إلي حالة شديدة من التأزم والقبض، ويمارس الحياة خلال تلك الفترة بتعاسة، وشعور بالفشل، واليأس من كل شيء، وتأدية واجبات الحياة لمجرد الخلاص منها، ولا يزال كذلك حتي يتداركه الله برحمته، فتشرق عليه بارقة من رحمات الحق سبحانه، فإذا به قد قام بشيء من العبادات بحضور، وهمة، والتجاء إلي الله، فانفلق له صبح اليقين عن الركون إلي الله، مما يبدد من الصدر ظلمات القبض، ويحيي فيه معني الأمل الفسيح، المنبت للعمل الصحيح، قال الله تعالي: (وَعَلَي الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّي إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، أي تاب الله عليهم، بعد أن استولي عليهم انخفاض معنوياتهم، حتي ضاقت عليهم أنفسهم، وامتلأت حرجاً، وضيقاً، وانْتُزِعَت الروحُ من أعمالهم وتصرفاتهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، لكن سري في تلك الظلمات كلها شعاع من نور الالتجاء إلي الله، حيث إنهم عندما ضاقت بهم الدنيا وما فيها، وقع لهم انقطاع الرجاء من كل شيء، فرجعوا إلي الله، وتيقنوا ألا ملجأ منه إلا إليه، فهنالك فقط خرجوا من ضيق أنفسهم إلي سعة الله، وتجدد عندهم الأمل، وانبعثت فيهم الهمم، ورجعت إليهم بالتدريج معاني العمل والحركة، وقد بين الله تعالي في الآية التالية مباشرة سبباً وجيهاً وجليلاً لذلك، حيث قال سبحانه بعدها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي وثِّقوا علاقتكم بأهل الصدق في المعاملة مع الله، ممن ينشرون علي العباد معاني رحمة الله، ويجددون الأمل في قلوب الناس، وإذا ما لقيهم الإنسان حصلت عنده الهمة، وتحررت روحه من أثقالها، وهم الذين عبّر عنهم الإمام ابن عطاء الله السكندري صاحب «الحِكَمِ» حين قال: (لا تَصْحَب من لا يُنْهِضك حالُه، ولا يدُلك علي الله مقالُه)، فأولئك هم الصادقون، الذين وصلوا إلي أعلي ثمرات العبادة، وصاروا للناس مصدر أمل ورحمة وراحة، ولهم حال مُنْهِضٌ، تتجدد به في النفوس معاني الأمل والعمل.اللهم ألهمنا الحكمة والبصيرة، وسلام علي الصادقين.