من أجلِّ ثمرات العبادات الحية المتوهجة: الأمل، حيث إنها تعلم الإنسان أن لا يصاب باليأس أبداً، وأن لا يستسلم لإحباط أو قنوط، لأنها تربطه دائماً برب غفور، حليم، ولأنها تجدد معرفة الإنسان بربه سبحانه، فيخرج بها الإنسان من أوهامه وعلله النفسية إلى حال السكينة، ويخرج بها من ضيق نفسه إلى سعة ربه، فيبقى دائماً حر الضمير، صاحب أمل متجدد، غير مكبّلٍ ولا مثقل، يزرع فى الناس من حوله الثقة فى الله تعالى، والثقة فى لطفه وحكمته وجميل تدبيره، فيكون مصدر سكينة وأمل للناس جميعاً، يجدد فى نفوسهم الهمة، ويدفع عنهم أثقالهم النفسية، ولا شك أن هناك أحوالاً كثيرة جداً، ينخفض فيها الإيقاع الحيوى للإنسان، ويهوى إلى حالة شديدة من التأزم والقبض، ويمارس الحياة خلال تلك الفترة بتعاسة، وشعور بالفشل، واليأس من كل شىء، وتأدية واجبات الحياة لمجرد الخلاص منها، ولا يزال كذلك حتى يتداركه الله برحمته، فتشرق عليه بارقة من رحمات الحق سبحانه، فإذ به قد قام بشىء من العبادات بحضور، وهمة، والتجاء إلى الله، فانفلق له صبح اليقين عن الركون إلى الله، مما يبدد من الصدر ظلمات القبض، ويحيى فيه معنى الأمل الفسيح، المنبت للعمل الصحيح، قال الله تعالى: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (سورة التوبة: الآية 118)، أى تاب الله عليهم، بعد أن استولى عليهم انخفاض معنوياتهم، حتى ضاقت عليهم أنفسهم، وامتلأت حرجاً، وضيقاً، وانْتُزِعَت الروحُ من أعمالهم وتصرفاتهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، حتى خيل إليهم أنها ببلادها وأقطارها وسهولها وجبالها وقاراتها ودولها وحضاراتها قد ضاقت حتى التفت حول أعناقهم، فتكاد أرواحهم تزهق، لكن سرى فى تلك الظلمات كلها شعاع من نور الالتجاء إلى الله، حيث إنهم عندما ضاقت بهم الدنيا وما فيها، وقع لهم انقطاع الرجاء من كل شىء، فرجعوا إلى الله، وتيقنوا ألا ملجأ منه إلا إليه، فهنالك فقط خرجوا من ضيق أنفسهم إلى سعة الله، وتجدد عندهم الأمل، وانبعثت فيهم الهمم، ورجعت إليهم بالتدريج معانى العمل والحركة، وقد بين الله تعالى فى الآية التالية مباشرة سبباً وجيهاً وجليلاً لذلك، حيث قال سبحانه بعدها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أى وثِّقوا علاقتكم بأهل الصدق فى المعاملة مع الله، ممن ينشرون على العباد معانى رحمة الله، ويجددون الأمل فى قلوب الناس، وإذا ما لقيهم الإنسان حصلت عنده الهمة، وتحررت روحه من أثقالها، وهم الذين عبّر عنهم الإمام ابن عطاء الله السكندرى صاحب «الحِكَمِ» حين قال: (لا تَصْحَب من لا يُنْهِضك حالُه، ولا يدُلك على الله مقالُه)، فأولئك هم الصادقون، الذين وصلوا إلى أعلى ثمرات العبادة، وصاروا للناس مصدر أمل ورحمة وراحة، ولهم حال مُنْهِضٌ، تتجدد به فى النفوس معانى الأمل والعمل، (وللحديث بقية).