عندما أقف امام المرآة فأنا كمعظم الناس.. أجد نفسي ادقق في ملامحي.. وأكتشف حقيقة مؤلمة.. هي ان كثرة النزيف وكثرة نقل الدم لي وكثرة الإرهاق وازدحام الأحلام.. كل ذلك جعل ملامحي تتغير، فلم اعد انا الشاب الذي يفخر بجماله الخاص. نعم كان لوجهي منذ الصغر جاذبية خاصة.. وكنت احس ان هالة القبول موجودة في ملامحي.. مقبول الشكل عند كل انسان يراني. ولكن الإجهاد الطويل والخصام الشديد بيني وبين المرض الذي يسكن داخلي.. هذا الإجهاد وذلك الخصام جعلاني أبدو مجهدا طوال الوقت وحزينا معظم الوقت. وتضخم انفي كثيرا ودخلت عيوني كثيرا في جمجمتي وأصبحت هالات السواد حول جفوني تزداد.. ولولا شعري الطويل لازداد شكلي " وحاشة ".. وكنت اسأل نفسي عندما تعجب بي فتاة ما.. ما الذي يعجبها في شكلي؟ انني حالة مرضية طويلة. انا لا احتاج إلي احتضان قدر ما انا محتاج إلي سرير في مستشفي ارقد فيه إلي الابد أو إلي ان اشفي. كان وقوفي امام المرآة من المسائل التي تعذبني قليلا.. لأني اعرف ايضا من شكلي.. ما الذي يمكن ان يحدث لي.. هناك نقطة من الضوء تظهر لي في عيوني احس عندما أراها أن النزيف سيهجم.. ولذلك كنت انظر إلي وجهي في المرآة كثيرا. وكنت أكره في نفس الوقت هذا الوقوف لكن يختلف الامر عندما التقي بامرأة. *** احس احيانا ان لقائي بالمرأة فيه محاولة مستميتة مني لأن اجعلها تحس برجولتي. نعم لابد لي من ان اقول ذلك وبمنتهي الصراحة.. كنت احس ان اسم عبد الحليم حافظ وشهرته وحياته كلها لا تساوي لحظة اعتراف من واحدة بأنني رجل حقيقي اقف امامها. وكنت اعرف الحقيقة الأساسية في حياة المرأة. انها تحتاج إلي الحنان وكنت احس بذلك عندما التقي بمجموعة من الناس.. انني اسهر في كل مكان.. الليل صديقي الاساسي، وهو حياتي التي احبها. والليل عندي سهر واصدقاء وكوتشينة ولعب. وعندما كنت انزل إلي الشارع.. كنت اعاني من مشكلة. في القاهرة انا وجه معروف. ولذلك يلتفون حولي. لا يهتم احد منهم في هذه اللحظة بماذا اريد انا.. وأري في العيون بريق الرغبة في ان اتكلم مع كل انسان علي حدة وان اسمع مشكلته علي حدة.. بداية من الشاب الذي يريد امتلاك جنيه إلي المرأة التي تريد ان تشكو من ان والدها قام بتزويجها من الرجل الذي اختاره هو وفقدت هي قصة الحب التي تعيشها.. والمرأة التي تريد ان تسألني ان احميها من احلامها الكثيرة. ان احلام الناس امام المطرب تختلف عن احلامهم حتي مع انفسهم. ان صوت مطرب ينفذ إلي أفق المشاعر الخاصة. قلت مرة لمجدي العمروسي : - انا باشوف يا مجدي ان الاغنية اللي بتخرج للناس عاملة زي الشبكة اللي بيصطاد بيها الصياد السمك. الاغنية شبكة بتصطاد الهموم من قلوب الناس. قال لي مجدي : ده مظبوط. ونادرا ما يقول لي مجدي علي اي شيء انه مظبوط.. انه يختلف معي في الرأي ويحميني بالحب. انه احد الناس القلائل جدا في الحياة الذين لا يعرفون الكذب ويغفرون هم كذب الاخرين. *** اقول كل ذلك لأشرح.. لماذا لا استطيع النزول إلي الشارع بمفردي.. انني اجد حولي الحصار.. حصار المشاكل. والامنيات التي اصطادتها اغنياتي من قلوب الناس. وخصوصا انني اختلف عن أم كلثوم.. فهي امبراطورة في نظر الناس. وعبد الوهاب لا يسمح لنفسه علي الإطلاق بالمواجهة المباشرة بينه وبين الناس. اما انا فلي وضع مختلف. ان ظهوري إلي الناس معناه ظهور صديق عادي غني لوحده. فاستمع له من حوله وأعجبوا به وصفقوا له وجعلوه المغني الخاص لكل منهم.. ولذلك كنت لا اسير في الشارع إلا في رمضان وقت الغروب.. وأستمتع بالنيل وأمشي في شارع فؤاد واقف امام فتارين شارع سليمان باشا وأشوط حجرا بقدمي.. وأشتري بعشرة صاغ لب وسوداني وأقزقز علي مزاجي.. وأحجل في الشارع.. وأنادي علي صديق يسير بمفرده في اخر الشارع بصوت يسمعه. لماذا اقول كل ذلك لأني لا انطلق إلا عندما انظر إلي المرآة ولا قرار امامي سوي ان اسافر. *** وأقرب مكان اسافر فيه هو بيروت.. وبيروت قبل الحرب الأهلية كانت كنادي العراة.. مكان تسافر إليه وأفكارك كلها عارية.. يمكنك ان تقول كل شيء.. وأن تصرخ علي مزاجك.. وان تشتري اي شيء.. ولا اريد ان اقول رأيا في الحرب الاهلية فقد استقلت من وظيفة المطرب الذي يفهم في السياسة عام 1967.. وثبت لي يومها أنني لا افهم في اي شيء رغم صداقتي بقمة رجال السلطة. في بيروت قال لي صديق لبناني يحب الشراب.. هناك بار يمكنه ان يقدم لي كوبا من اللبن ويقدم لي اي نوع من الويسكي.. ويمكن لنا معا ان نري اجمل قطعة في البحر الابيض المتوسط.. البحر هناك يقول لك كل شيء.. يحكي لك عن الدنيا والآخرة. شوارع بيروت ضيقة وسريعة.. وعالية ومنخفضة تمشي فيها فتشعر انك انسان هارب من عيون الناس وستلتقي بواحدة تحبها بعيدا عن العيون وأنك ستهرب من مطاردة الحساد لك. من كتاب «أسرار حياتي»