نعم، سوف يأتي يوم قريب نعيد فيه كل حساباتنا فيما يخص الرئيس السابق حسني مبارك وفترة حكمه التي امتدت إلي ثلاثين عاما. إن لغة العواطف والانفعال لا تصنع تاريخا بقدر ما تصنع ظواهر مرضية وعرضية، سرعان ما تتجاوزها الأيام وقد تدحضها الحقائق. ولأن الحقيقة في مصر تظل كثيرا طي الكتمان لفترات طويلة ، فإن الاحكام السريعة علي تلك الفترة لم تكن إلا نتاجا لآلة اعلامية شرسة وجدت في مناخ الفوضي الذي تعيشه مصر الآن ساحة خصبة لا يحاسب فيها أحد، أو حتي يحكم العقل والمنطق فيما يقال أو يسمع. وإذا كانت محاكمة الرئيس مبارك واسرته تمثل علامة فارقة في تاريخ الديمقراطية والحرية، باعتبارها سابقة لم تحدث من قبل. فإن الذي لاشك فيه ايضا انها تتم وسط كثير من المبالغات والتهويل بالاضافة لمناخ من الشك والريبة والمخاوف ولغة التخوين وادعاءات الوطنية المزيفة، التي تضرب في مقتل المعدن الاصيل والحقيقي لاخلاقيات شعب وحضارة تقترب من ثمانية آلاف عام. كما تتم ايضا في ظروف اقليمية ودولية تتجه كلها - للاسف الشديد- لمحاولة ابعاد مصر، والقضاء الكامل علي دورها المحوري وتفكيك كل عناصر وحدتها، التي ظلت هي وحدها صمام الأمان لها عبر آلاف السنين. من حقنا ان نفخر بأن العدالة والقانون في مصر لا تفرق بين حاكم ومحكوم، لكن من الضروري ان نخجل ايضا من محاولات سافرة يقوم بها البعض لتحويل هذا القانون إلي قميص عثمان، يخفي من ورائه مآربه ورغبته في التشفي والانتقام. تلك الرغبة التي امتدت لتشمل محاولة تشويه العدالة والنيل من رموزها وسدنتها الذين لا يعرفون في الحق لومة لائم. ولأن الحقد الأسود والغل البغيض اصبح آلة تخويف وترهيب، تأتي لحظات ما كنا نود أو نحب ابدا ان يسجلها تاريخ بلادنا بعد ثورة سلمية بيضاء روتها دماء زهرة شبابنا في الخامس والعشرين من يناير، لحظة يتملكنا فيها الجحود والنكران لتاريخ طويل من الانجاز والعمل والجهد الدءوب لمبارك الرجل الذي شاءت اقداره ان يكون في الطليعة، ويظل اسمه خالدا باعتباره أحد صناع اول نصر عسكري مصري في التاريخ الحديث، رجل هو في البداية والنهاية بشر وليس ملاكا لايعرف الخطأ. رجل من حقنا ان نحاكمه ونحاسبه اشد ما يكون الحساب علي أي أخطاء ارتكبت في عهده، ولكن بلا جحود أو نكران أو غل اسود سيصبح - شئنا أم أبينا - نقطة سوداء في تاريخنا، خاصة أن عدداً كبيراً من الاتهامات جاءت علي هوي أصحابها وخيالاتهم المريضة رغم كل ما فيها من كذب وافتراء. لقد آلمني واحزنني لغة التشفي والانتقام امام حالة إنسانية فريدة، تتسابق فيها خطوات الوفاء وعظمة اخلاق المصريين أمام جحافل الغل الاسود، الذي يحولها إلي حالة من الاذلال والقهر لرجل تجاوز عمره 48 عاما، وتؤكد كل التقارير الطبية ان حالته الصحية تحتاج إلي عناية خاصة. رجل تحمل حقيبة سنوات عمره سجلا حافلا لايمكن ان يعتريه الصدأ لان نياشين النصر وتجارب الموت وطلب الشهادة تسمو فوق كل شيء وفوق اي اعتبار. في عيون الرئيس السابق مبارك نظرات ندم قد تداوي اخطاءه كبشر، نطلب من الله تعالي ان يسامحه ويعفو عنها، لكننا لا يجب - بأي حال من الاحوال - ان نحولها إلي لحظات ندم أمام نكران وجحود وغلظة قلوب لا تعرف من طينة مصر سوي انها محل للميلاد. مبارك ليس فقط مواطنا مصريا له كل حقوق الرعاية حتي لو كان محبوسا علي ذمة قضية، ولكنه جزء هام من تاريخ مصر الذي يجب ان نحميه ونصونه ونخضعه للتقييم الموضوعي، بعيدا عن مهاترات ومحاولات بغيضة للانتقام والحقد الاعمي. اتركوا قضاء مصر الشامخ يقول كلمته وستكون وحدها كلمة حق. اقول ذلك، ومصر تعيش خلال هذا الاسبوع حدثا تاريخيا كان مبارك هو أيضا أول من بدأه، عندما خاض أول انتخابات تنافسية مع منافسيه الدكتور نعمان جمعة والدكتور ايمن نور، رغم كل ما شابها لكنها تظل البداية التي لايمكن ان يتجاوزها التاريخ الذي تحاول قوي الظلام والارهاب ان تعيد كتابته من جديد وفقا لاهوائها واغراضها، وخدمة لمخططات خارجية تضرب عالمنا العربي والاسلامي كله في مقتل. اليوم يتجه ملايين المصريين لصناديق انتخابات الرئاسة في جولة الإعادة. واعتقد أنه لم يصبح هناك أي نوع من المقارنة بين المرشحين شفيق ومرسي. لا شك أن مشاركة كل المصريين في الانتخابات تؤكد أن بلادنا لن تسقط أبداً، بعد أن نفضت عن كاهلها كل المخاوف، وخطت طريقا واضحا نحو الديمقراطية، وإعادة البناء، وهو الطريق الذي لن تستبدله بخلافة الخوارج الذين ينثرون في مصر اليوم بذور الفتنة والوقيعة. دعونا نفخر بأنه لدينا - لأول مرة - رئيس سابق.. رئيس نحاكمه بالحقائق والادلة والقانون وليس بحذف اسمه وسنوات حكمه من كتب التاريخ .. رئيس لانزال حتي اليوم نصرف من الاحتياطي النقدي الذي كان اول من أصر عليه ووضع الضوابط الصارمة للانفاق منه.. رئيس رفض وجود أي قواعد عسكرية أجنبية في بلادنا، وحافظ علي السلام وبدأ في بناء أكبر بنية أساسية تشهدها بلادنا.. رئيس هو نتاج لمصر كلها وجزء من حركة تاريخ يصحح نفسه. تاريخ نفخر بأن اولادنا واحفادنا هم الذين صنعوه لنا بدماء زكية، يكاد عبقها يختفي اليوم أمام رائحة بخور اشجار نخرها السوس، ونصبت حولها حلقات المجاذيب والملالي الجدد. ويارب احفظ لنا مصر لتظل دائماً تحلق في السماء.