في البدء كان هناك سلطان وتاجر وتمساح" وفي النهاية كان هناك أب أفريقي علي حافة نهر مكسيكي، يحتضن وليده ويهبط به للماء البارد ويواجه فزع زوجته قائلا: «لقد نزعت منه رهبة الشلال، سيواجه الدنيا كلها بعد ذلك بلا خوف». بين الجملة الإفتتاحية في رواية "كتيبة سوداء"، الصادرة عن دار الشروق، وجملة النهاية، رحلة طويلة بين الحرب والحب، سرد وقائعها وتخيلاته الروائي محمد المنسي قنديل متخطيا مساحات شاسعة في قارة أفريقيا وأوروبا "العالم القديم"، وفي قارة أمريكاالجنوبية "العالم الجديد"، وصراعات وطموحات واستلاب وعبودية تقود أبطاله إلي الموت أو الجنون أو الضياع. توغل المنسي في جغرافيا الأماكن ونفوس البشر، بين عامي "1863 و1868" ، يتصاعد صراع من أجل السلطة والمال، أوروبا التي تحتضر تحاول إنعاش إقتصادها عبر إحتلال المكسيك من خلال جيوش أستعبد جنوده من عمق أفريقيا ليرسلهم الخديوي من مصر للحرب في المكسيك مساندة لفرنسا، يستغلهم البلجيكي "ماكس" وزوجته "شارلوت" الباحثان عن ملك في بلاد لا تخصهم لصالح "نابليون"، تحالف بين الشهوة إلي السلطة والملك والرغبة في استغلال ثروات الأرض البكر، تتصاعد من قلب نيرانها دراما أمتدت من أسر الجنود السود في جنوب أفريقيا وتكوين ما سمي ب "الكتيبة السوداء" التي أرسلها خديوي مصر للمشاركة في الحرب، لتبدأ حكايات قائد الكتيبة محمد ألماس، والمترجم مظلوم أفندي، والجنود عاصي وجوفان وغيرهم، يرسم المنسي تشابك علاقاتهم وتعقد حياتهم وتفاعلهم مع العالم الجديد كخط أساسي في روايته، يتوازي مع خط آخر يبدأ من أوروبا مع شارلوت وماكس وينتهي بتحطم أحلامهم في المكسيك. مصائر أعضاء الكتيبة السوداء المستعبدين من أفريقيا تتوازي مع مصائر الإمبراطور ماكس والامبراطورة شارلوت القادمين من أوروبا وراء وهم تكوين إمبراطورية جديدة في الأرض البكر، الخوف ايضًا عامل مشترك بين المقتادين من وطنهم لتحقيق أحلام إمبراطورية لا تخصمهم، ويخوضون معارك قاتلة تنهي حياة معظمهم، وبين الإمبراطور الخائف من هزيمته في مغامرته والإمبراطورة التي يعتصرها الخوف من الخطيئة، تختلط الأحلام بالمخاوف، "عاصي" المتمرد الذي واجه الموت منذ استعباده إلي وصوله المكسيك، يخضعه حبه للإمبراطورة، ويغير حياته تماما، ويقوده إلي التمرد من جديد والموت في مكان أبعد من تخيلات ابن الغابة، بينما "جوفان" الجندي المطيع الذي حارب بضراوة بعيدا عن قارته السمراء يمنحه حبه للمكسيكية "ماريانا" حياة جديدة، يكفر بالحرب والقتل ويكفر عن ذنوبه، التي اقترفها بقتله الأبرياء، بالحب، وهو ما تفشل فيه الإمبراطورة التي يعصف بها الإحساس بالذنب من خطئية الحب والخوف من مصير الهزيمة فتنتهي بالجنون، وينتهي زوجها المغامر الخائب بالموت أيضًا بعد أن خسر رهانه في العالم الجديد، في النهاية، يتلاقي الخطان المتوازيان في الرواية، العبيد والسادة، مع تداخل الصدام والإندماج بين الحضارتين القديمة والجديدة ، وكأن الإنكسار من نصيب أهل الحرب، والإندماج من نصيب أهل الحب، فالخوف الذي هزمه " جوفان" هو نفسه الخوف الذي هزم "شارلوت يحيك المنسي تفاصيل صراع قديم- حديث بحساسية ولغة رائقة تميز أعماله، إزداد قوة علي مستوي السرد واللغة مع تشابك العلاقات في النصف الثاني من الرواية، بينما أنشغل النصف الأول من العمل تتبع لتفاصيل الرحلة من أفريقيا للمكسيك، بالتوازي بتفاصيل الرحلة من أوروبا للمكسيك، طبيعة الجغرافيا وعلاقة البشر بها، تفتح أعين أعضاء الكتيبة علي أراض جديدة لم يطرقوها من قبل، وتفاعلهم معها ومع بعضهما البعض، إنسحاقهم التدريجي وتحولهم من أصحاب أرض إلي عبيد، ثم تحولهم التدريجي إلي جنود يربطهم الدم والرغبة في الانتصار، أعتمد أحيانا علي وصف الأماكن أكثر من التوغل في طبيعة البشر، مع الوصول إلي المكسيك بدأ فصل آخر من العلاقات، بدخول طرف ثالث، وهو أهل الأراضي الجديدة، وتصاعد الصراع بين الشخصيات مما أكسب كل شخصية من أعضاء الكتيبة ملامحه الخاصة، وجعل الإيقاع أكثر سخونة.