أي أن العبرة دائمًا بقدرة الحزب علي تجديد قيادته والدفع بعناصر جديدة إلي الصدارة فأين هي الأحزاب المصرية من ذلك!ب الأصل في «الحزب السياسي» - وفقًا لتعريف الفقهاء الكبار - هو أنه تجمع حول فكر مشترك وأهداف متطابقة يسعي أصحابها للوصول إلي السلطة، ويتحدث الفقيه الدستوري الفرنسي «موريس دوفرجيه» عن أن غياب دافع الوصول إلي السلطة يسقط مفهوم «الحزب السياسي» ويحيله إلي «جمعية» ذات طابع فكري أو ثقافي أو اجتماعي ولكنها ليست حزبًا بالمفهوم المعاصر، والواقع أن الأحزاب السياسية في «مصر» ضعيفة تاريخيًا إذ ليست هذه الظاهرة وليدة اليوم فقط ولازلت أتذكر عندما كنا في ستينيات القرن الماضي في ظل التنظيم السياسي الواحد وهو «الاتحاد الاشتراكي العربي» أن الرئيس «عبد الناصر» قد حاول أن ينشئ حزبًا طليعيًا داخل التنظيم الكبير ولقد دخلناه بترشيح فوقي تحت مسمي «طليعة الاشتراكيين»، وأتذكر أيضًا أن زملاءنا من الطلاب العرب كانوا يتندرون علينا قائلين: (إن في «مصر» حزبين كبيرين فقط هما «الأهلي» و«الزمالك»)، وواقع الأمر أن استقراء التاريخ يؤكد أن المصريين لم يعرفوا «الحزب السياسي» الحقيقي الذي ينبع من صفوف الجماهير ليصعد إلي أروقة السلطة إلا ب»حزب الوفد» في الفترة «الليبرالية» ما بين ثورتي 1919 و1952 أما ما عدا ذلك فقد كانت أحزابا فوقية ورقية لا تستند إلي شعبية حقيقية وليس لها الرصيد الجماهيري المطلوب، وعندما قامت ثورة يوليو 1952 اتجهت «مصر» إلي مفهوم التنظيم الواحد بدءًا من «هيئة التحرير» ثم «الاتحاد القومي» ف«الاتحاد الاشتراكي» ف»المنابر السياسية» التي دعا إليها الرئيس «السادات» ثم «حزب مصر» ف«الحزب الوطني الديمقراطي» أي أننا قد قبلنا لسنوات طويلة مفهوم أحادية التنظيم السياسي حتي ولو تواجدت حوله كيانات حزبية صغيرة، ولا شك أن ضعف التنظيم الحزبي في «مصر» يكلفنا الكثير لأنه يعني ببساطة انعدام التمثيل السياسي المباشر للشارع في إطار الحياة السياسية العامة، فأنا شخصيًا أجد من أحلامي أن يكون النظام السياسي المصري برلمانيًا كاملًا يعطي الصلاحيات الأولي لرئيس الوزراء ويجعل رئيس الدولة مجرد رمز وطني يكون هو الأول مراسميًا بينما رئيس الحكومة وهو رئيس السلطة التنفيذية هو الأول سياسيًا في ظل برلمان قوي وفاعل يقود الحياة السياسية في البلاد ولأن ذلك يقتضي وجود نظام حزبي قوي فإن الحديث عن «النظام البرلماني» الذي نميل إليه يعتبر ثرثرة لا مبرر لها في ظل أوضاع «مصر» الحالية وضعف معظم الأحزاب السياسية فلو أنها كانت قوية وفاعلة لكان «النظام البرلماني» هو الأنسب ل»مصر» لأنه يفتت «الرموز الفرعونية» ويجعل الرئيس هو ذلك الذي يملك ولا يحكم ويحيل رئيس الوزراء إلي مسئول سياسي أول أمام الشارع، ولقد خبرت هذا النظام في الدول الثلاث التي عملت فيها وهي «بريطانيا»و»الهند»و»النمسا» فضلًا عن متابعتنا للنظام «السياسي الإسرائيلي» بل و»التركي» أيضًا قبل أن يجور «رجب طيب أردوغان» علي منصب رئيس الوزراء ويتحول هو إلي الحاكم الأوحد ل»الدولة التركية» وكأنما يعود «الخليفة العثماني» من جديد إلي قصر «الخلافة الإسلامية»، إن مأساة الأحزاب المصرية أنها لم تجذب الشباب المصري ولم تتمكن من أن تكون مدارس حقيقية لتربية الكوادر السياسية، فالأصل في «الحزب السياسي» أنه أيضًا مدرسة تدريب لتخريج القيادات السياسية القادرة علي اقتحام معترك الحياة العامة بكفاءة واقتدار، ولازلت أتذكر من سنوات شبابي الدبلوماسي عندما كنت مسئولًا عن ملف «الشئون الداخلية البريطانية» في سفارتنا ب»لندن» أنني دعيت في منتصف سبعينيات القرن الماضي لحضور المؤتمر السنوي ل»حزب المحافظين» في مدينة «بلاكبول» وشهدت يومها عملية تصعيد السيدة «مارجريت تاتشر» وزيرة التعليم وهم يأخذون بيدها من الصفوف الخلفية لقيادات الحزب إلي الصف الأول ويدشنون زعامتها لذلك الحزب العريق، ولقد أصبحت فيما بعد الشخصية التالية ل»ونستون تشرشل» في التاريخ البريطاني بل لقد تفوقت عليه في بعض الاستطلاعات وقادت «حرب الفوكلاند» في مطلع الثمانينيات بقوة وجسارة أي أن العبرة دائمًا بقدرة الحزب علي تجديد قيادته والدفع بعناصر جديدة إلي الصدارة فأين هي الأحزاب المصرية من ذلك! إنني أظن أن جزءًا كبيرًا من مشكلة الحياة السياسية المصرية هي تعثر خطوات الديمقراطية لدينا إنما تنبع من ضعف الأحزاب السياسية وانعدام قدرتها علي التجدد وعجزها عن الدفع بكوادر جديدة وقيادات قادرة، فضلًا عن ضعفها جماهيريًا وعزلتها عن الشارع فهي أحزاب في معظمها مكتبية وورقية ولكنها لا تستطيع تحريك أنصارها في اتجاه معين لسبب بسيط هو أن معظمها يفتقر إلي وجود أنصار له، إن «مصر الديمقراطية» بل و»مصر التنمية» لن تقف علي قدميها إلا بوجود أحزاب سياسية قادرة علي أن تكون قاطرة المشاركة السياسية والتمثيل النيابي خصوصًا وأن «الدستور الجديد» يعطي منصب رئيس الوزراء صلاحيات واسعة لذلك يجب أن يكون تعبيرًا عن حزب الأغلبية أو ممثلًا لإتلاف أحزاب تمكنت من تشكيل الحكومة وبالتالي فإننا نقلل من وطأة النظام الرئاسي ونفتح أبوابًا للاستقرار السياسي الذي غاب عن الساحة المصرية لسنوات طويلة، وإذا كانت الانتخابات النيابية المصرية الأخيرة قد أفرزت في مرحلتها الأولي حتي الآن أسماء لمجموعات سياسية وتجمعات حزبية فإنها يمكن أن تتحول في «البرلمان الجديد» إلي تكتلات تعبر عن تيارات سياسية معينة وتختزل التوجهات الأساسية للشارع المصري في تلك المجموعات، وعلينا في هذه الحالة أن نعيد النظر في تواجد ما يقرب من مائة حزب علي الساحة لا يمثل معظمهم نصابًا جماهيريًا أو تكتلًا شعبيًا يستحق الاهتمام، ولذلك فإنني أظن أنه بعد تشكيل «البرلمان الجديد» في صورته النهائية فإن علينا أن نراجع في أمانة وتجرد جدوي وجود أحزاب لم تحصل علي مقعد واحد في انتخابات «مجلس النواب» وهو ما يعني أننا أمام اختبار لجدية تلك الأحزاب ودرجة مصداقيتها أمام رجل الشارع ولو تأملنا تاريخ «حزب الوفد» صاحب الشعبية الكاسحة قبل ثورة يوليو 1952 لوجدنا أن المصريين قد التفوا حوله بقيادة «سعد زغلول» ثم «مصطفي النحاس» من بعده منذ اليوم الأول الذي جرت فيه حملة الحصول علي التوقيعات من الشارع المصري لتعطي «الوفد» توكيلًا من الأمة للقيام بمهمتها في التفاوض مع الجانب البريطاني بعد نهاية «الحرب العالمية الأولي» ووفقًا لمبادئ الرئيس الأمريكي «ويلسون» الأربعة عشر والتي أعطت حق تقرير المصير للمستعمرات وبذلك انبثقت حركة ذلك الحزب من وسط الجماهير المصرية الساعية إلي «الجلاء» و«الدستور» في وقت واحد، وقد بدأ التفاوض من منطلق وطني جاد مع الجانب البريطاني الذي كان لا يري أن المصريين يستحقون استكمال السيادة علي أرضهم فصدر تصريح 28 فبراير 1922 يعطي «مصر» استقلالاً ذاتيًا منقوصًا لأنه تضمن التحفظات الأربعة الشهيرة، وفي عام 1923 تحقق الهدف الثاني للإرادة المصرية بصدور «الدستور» الذي كان نقلة نوعية لا في «مصر» وحدها ولكن بين كل دول المنطقة في وقت كان «حزب الوفد» يمثل وعاء الحركة الوطنية المصرية ومركزها الذي تدور في فلكه حين كان الوفديون يقولون (يحيا «الوفد» ولو فيها رفد) كما رددوا يومها أيضًا (لو رشح «الوفد» حجرًا لانتخبناه) فازدهر ذلك الحزب السياسي نتيجة شعبيته الطاغية التي جسدتها زعامة «سعد زغلول» ثم صلابة «مصطفي النحاس» إلي أن حدث انقطاع مفاجئ للحياة الحزبية بإلغاء الأحزاب السياسية بعد ثورة يوليو 1952 ولا يعني ذلك أن الدنيا كانت سخاءً رخاءً آمنة فقد كان «الإقطاع» مسيطرًا و»مجتمع النصف في المائة» يتحكم في الأرزاق ويضغط علي الأعناق مما دفع الثوار من «الضباط الأحرار» لأن يقوموا بثورتهم التي جعلوا من مبادئها الست «إقامة حياة ديمقراطية» سليمة ولكنهم للأسف لم يتمكنوا من تحقيق ذلك بل اعتمدوا فكرة «المونولوج» السياسي الأوحد بديلًا ل»الديالوج» الوطني بين الأحزاب وغيرها من أطراف العملية السياسية، إنني أظن أنه لن تقوم قائمة لحياة ديمقراطية سليمة في «مصر» إلا بأحزاب قوية ذات وجود راسخ في الشارع المصري وفئاته المختلفة وقطاعاته المتعددة خصوصًا الشباب الذي يجب أن نولي أهمية قصوي لتربيته الوطنية وتدريبه السياسي لأن الشباب هو القادر علي صياغة المستقبل وحمل راياته سواء أكان حزبيًا أو مستقلًا فالوطنية ليست حكرًا علي توجه واحد مهما كانت الظروف والتحديات والغايات. رسالة «الغيطاني» الأخيرة كنت أتذكره دائمًا وهو في مراحل الغيبوبة الأخيرة حيث كان الأطباء يقولون إنه في حالة سبات عميق تبدو أنها طريقه إلي الآخرة، لقد كنا نعلم ذلك وتشعر به أسرته الصغيرة ولكن عندما يتعلق الإنسان بالأمل فإن كل قوانين الحياة تسقط أمامه، وكنت أتوهم أنه سوف يصحو ليخاطب «الزيني بركات» بل ويخاطبنا من خلاله ليحكي لنا تجربته مع المرض والغيبوبة والتماس مع الموت، لقد رحل «جمال الغيطاني» بعد تاريخ حافل وغير عادي بل واستثنائي لرجل طرق كل الأبواب من أجل المعرفة وعاش لوطنه حربًا وسلامًا وشارك في ميادين القتال مراسلًا عسكريًا وفي ساحات الأدب روائيًا عالميًا حيث وصلت كلماته إلي أصحاب الثقافات الأخري والجنسيات المختلفة فقد كان ما يكتبه رائعًا وجاذبًا ومؤثرًا، إن مسيرة حياة «جمال الغيطاني» تعطي الأمل لكل شاب مصري موهوب في أنه يستطيع أن يحفر في الصخر مثلما فعل «الغيطاني» حتي يتحقق له شيء من أمانيه وبعض من أحلامه، ولقد أسعدني كثيرًا ذلك الاهتمام الذي حظي به بعد رحيله تأكيدًا لقيمته واعترافًا بمكانته حتي تسابق في الإشادة به الكتاب العالميون والعرب والمصريون وشعر الجميع أن الأدب العربي والرواية المعاصرة قد فقدا ركنًا هامًا لهما، وقد لفت نظري رد الفعل الكبير الذي ظهر من القوات المسلحة المصرية الباسلة عند رحيل ذلك الروائي العظيم فقد صدر عنها بيان ينعيه كما صدر عن رئاسة الجمهورية بيان مماثل بل وأقامت القوات المسلحة له عزاءً ضخمًا في «مسجد المشير» سعي إليه كل محبيه وعارفي قدره وقد تصدره ابنه الوحيد الدبلوماسي الشاب الذي يحظي بتقدير واهتمام بالغين علي مستوي زملائه ومن عملوا معه، ولقد تذكرت وأنا أجلس في قاعة العزاء ذلك اليوم من نهايات شهر يونيو عندما صوت «المجلس الأعلي للثقافة» بأغلبيته لمنح «جمال الغيطاني» «جائزة النيل العليا» وهو الرجل الذي خاصمته الجوائز المصرية بعض الوقت بينما كرمته المكتبات العالمية والدوائر العربية كل الوقت، وأتذكر أنني كنت شديد الحماس له وقت التصويت وقلت لمن حولي إن لم يمنح مجلسنا جائزته الكبري في الآداب ل»جمال الغيطاني» فلمن يمنحها! وقد خرج «جمال الغيطاني» من الجلسة أثناء التصويت ثم عاد إليها ليستقبل بتصفيق حاد من مؤيديه ومنافسيه ومعارضيه علي السواء، ولقد كتب لي يومها رحمه الله رسالة علي الهاتف المحمول لا أعرف لماذا قررت الاحتفاظ بها وإبقاءها تلك الشهور كلها، لقد كتب لي رحمه الله نصًا: (أخي العزيز النبيل الدكتور «مصطفي» أمتن لك ولمشاعرك النبيلة، إن تقديرك الصادق لي هو أجمل جائزة أحصل عليها.. دمت لي). «جمال الغيطاني» ولسوف أترك هذه الرسالة في ذاكرة المحمول مخزونًا لذكري عظيمة لشخص عزيز وغال ترك أثرًا كبيرًا علي الساحة الفكرية والوطنية والأدبية بل وملأ الدنيا وشغل الناس، ولقد استودع الرجل قرينته الكاتبة الصحفية بقية عمره وترك ابنته الأكاديمية المرموقة لتسعي مع شقيقها الدبلوماسي اللامع يجدفان معًا في نهر الحياة وصولًا إلي شاطئ الأمان.. رحمه الله وطيب ثراه.