نظلم الإسلام كثيراً إذا تصورنا أنه «دين ضد الحياة»، أو أنه لا يجعل الدنيا من أولويات الإنسان المسلم، لأنه يحثه علي العمل لآخرته فقط، من خلال الاهتمام بالعبادة أكثر من اهتمامه بالانشغال بدنياه، وهذا يتنافي تماماً مع مفهوم خلافة الإنسان لله عز وجل في هذا الكون، «إني جاعل في الأرض خليفة»، والتي تتلخص في إعمار الأرض، ما يتطلب بالضرورة إنساناً منتجاً، يعمل بكل طاقته في مجالات العمل المختلفة.. زراعة.. صناعة.. وتكنولوجيا. والإسلام بريء من ثقافة كراهية الدنيا وتحقيرها التي ترسخت في عقول الكثيرين نتاج ثقافة تملأ مكتبات كاملة دون مبالغة، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من «العقل الجمعي» راسخة في اللاوعي، تجعل من يخالفها يشعر أنه خارج تلك المنظومة، حتي إنها تنغص علينا حياتنا، ونحن نركض في الدنيا، لأننا نظن في نجاحنا «مخالفة شرعية» ما، أو علي الأقل تحليقاً في إطار منظومة ثقافية أخري. وانعكس ذلك بوضوح علي نظرة الشباب المسلم، إذ تجد النظرة السلبية للدنيا تسيطر علي عقولهم، فهذا يقول: الدنيا اختبار مؤلم، وآخر يقول: الدنيا عملية ألم مستمر، وثالث يقول: أنا أكره الدنيا، ورابع يقول: الدنيا تعب وابتلاء مستمر، وخامس يقول: إنما سميت الدنيا بهذا الاسم من الدنو والدناءة، وأفضلهم حالاً يقول: أنا أصلاً ليست لي نظرة محددة للدنيا. فكيف نشأت هذه النظرة السلبية للدنيا؟ هذا التصور الخاطئ كان مرتبطاً بفترات الانكسار في تاريخ المسلمين حيث كانت الدنيا تتسرب من بين أيدينا نحو الأمم الأخري، وكان علينا أن نتكيف مع هذا التسرب، فأقنعنا أنفسنا أن تسربها خير، وأنها لا تستحق الاهتمام، بل إنها لا تساوي شيئاً، هكذا قبلنا أن نترك الأبواب الكبري لعمارة الوجود ورضينا بسلم الحضارة البشرية. القرآن فرّق بين الدنيا وبين الحياة الدنيا فقد وردت «الدنيا» في «115» موضعاً في القرآن، لم يتطرق إليها مرة واحدة بالذم، بل علي العكس كانت هناك نظرة تقدير لها، ومنها قوله تعالي: «فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «، «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً»، «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ». أما الذم فكان للحياة الدنيا، وهي طريقة حياة خاطئة تركز علي ما هو سيء من القيم ومن الأخلاق ومن الشهوات، «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ»، «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ»، وهذا نمط حياة مرفوض بكل المقاييس والمعايير، وهو أن تتحول الحياة إلي لهو ولعب وتفاخر واستهتار وتراخٍ وإهمال. المشكلة ليست في الدنيا.. بل في تعاملك معها فرق كبير بين «الدنيا».. كقاعة امتحان ومادة امتحان، وبين الحياة الدنيا، كنمط سلوكي لمجموعة طلاب لاهين عابثين، سيرسبون حتماً عندما تظهر النتائج، علي رءوس الأشهاد.. فلماذا إذن تلعن قاعة الامتحان وهي الطريق إلي نجاحك إذا كنت جاداً. «الدنيا» بهذا المفهوم، وهو المفهوم الذي حدد قرآنياً، هي فرصتنا الوحيدة لأن نكون في وضع نرغب في الحصول عليه في الآخرة.. إذن لابد أن نغير من نظرتنا السلبية للدنيا، فهل يعقل أن يجعلنا الله خلفاء علي شيء ملعون «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»، إذ كيف تكلف إنساناً بأمانة وتوصيه بها وتحذره بعدم الخيانة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»، بينما أنت تلعن هذه الأمانة؟ أليس هذا عبثاً وحاشا لله أن يصدر منه العبث «أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ✵ فتعالي الله الملك الحق». وكيف يجعل الله الملائكة تسجد للخليفة الذي يعمر الأرض تكريماً له واعترافاً بدوره الكبير، بينما محل المسئولية غير مكرم بل مذموم مستحقر.. لا يمكن أن نعقل ذلك.. كيف ينهانا الله تعالي عن أن ننسي نصيبنا من الدنيا «ولا تنس نصيبك من الدنيا» وتكون الدنيا دنيئة.. أنحرص علي نصيبنا من الدناءة؟! وماذا عن قوله صلي الله عليه وسلم «ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه حتي يصيب منهما جميعاً». إن إماتة الدنيا في العقول تتحول إلي إماتة الدنيا في الواقع، بينما يريد الله أن يحييها «وَآيَةٌ لَهُمْ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (✵) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُون ِ(✵) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ»، إذ تأتي نظرية الاستخلاف في جملة فاصلة.. «وما عملته أيديهم». وكأننا ونحن نقرأ قول رسول الله صلي الله عليه وسلم «من أحيا مواتاً أي أرضاً ميتة... تتلمس العمران فهي له « نستشعر نفس الرؤية، وكذلك في قوله في الحديث الذي رواه أبو قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتي يغرسها فليغرسها»، رواه أحمد ومسلم. ولو كان صحابة النبي عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وأبوعبيدة بن الجراح وغيرهم، أصحاب نظرة كراهية للدنيا، لما فتحوا الدنيا، وبقوا في ديارهم ينتظرون موعد الرحيل عنها، ولما كانت حضارة الإسلام العريقة ولما كانت الأندلس بعلومها وفنونها ولما عرفت أوربا نهضتها بعد اتصالها بحضارة الإسلام من بغداد إلي الأندلس. دخل عمر بلدة يتفقد أحوالها، فهاله أن رأي كل أصحاب الصناعات والحرف فيها من غير المسلمين، فعنف المسلمين أشد التعنيف، فما كان منهم إلا أن قالوا قولا عجيباً، قالوا: الله سخرهم لنا !!! فرد عليهم عمر: كيف بكم إذا أصبحتم عبيدا لهم!! إنه الفهم الأبتر لقيمة الدنيا منهم، والفهم القويم لقيمتها من عمر، وهذا هو نفس الفهم الذي دفعه حين رأي شاب مظهرا للنسك متماوتاً في مشيته بقصد التعبد، فخفقه بالدرة وقال: لا تمت علينا ديننا أماتك الله، وفي رواية: ارْفَعْ رأسَك فإن الإسلام ليس بِمَريِض. نعم إنها - كما وصفها عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم - «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالي مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون». وهذا المفهوم «حلوة خضرة» يجعلنا ننظر للأرض بتفاؤل علي أنها نعمة تستحق العمل والتعمير تقديراً لها «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ « يمكنك إذن أن تجعل خضرة هذه الدنيا وسيلة لإنهاء الجوع في العالم، تزرعها قمحاً وشعيراً ونباتاتٍ ومزروعاتٍ يُستخرج منها الغذاء والدواء، وتكون المرعي لما تستدر منه الفوائد للإنسان.. ولكن.. يمكن أيضاً أن تستخدمها لتجعل النبتة مخدراً يلهيك عن الواقع.. أو خمراً تسكر بها وتفجُر.. المشكلة ليست في الدنيا ولكن في استخدامك لها وتعاملك معها. ويبقي أخيرا أن نشير إلي أن الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق، صاحب الفضل في استخدامه لمصطلح فقه حب الحياة.