الاكراه ليس سياسة لكننا في العالم العربي أجبرتنا سنوات الاستبداد الطوال علي القبول قسرا بان السياسة اكراه، وفي احيان قليلة وتجارب محدودة في عدة اقطار تحولت السياسة عبر تزوير متقن إلي »عملية اقناع اجبارية« يخدع فيها الحاكم المحكوم بعمليات شكلية وانتخابات صورية يستمد منها شكلا ضعيفا من أشكال الشرعية. ومن قبيل القاعدة اللغوية التي تجيز اطلاق صفة الجزء علي الكل تم التوافق تجاوزا علي تسمية تلك العمليات »ديمقراطية« لأنها تسمح بأشكال تعبير واحتجاجات محدودة مخالفة لنظام الحكم، وهي علي علاتها تظل شكلا من الديمقراطيات البدائية وتحت رايتها فقط يمكن الحديث عن موالاة ومعارضة ومجتمع مدني يحاور الدولة عن حقوق الناس، ومتطلباتهم ويلطف من قسوة وجمود وبيروقراطية مؤسساتها. ولأننا في العالم العربي لاندقق كثيرا في المصطلحات صرنا نستخدم تعبيرات الموالاة والمعارضة بترخص واستهتار كبيرين ونمطمطها لتسمح لنا بالحديث عن موالاة ومعارضة داخل انظمة الحكم الاستبدادية مع ان تلك الانظمة لا تعترف الا بالموالاة الفجة الصريحة، وتعتبر كل ما سواها تآمرا وتجسسا وخيانة وطنية. في الانظمة الديمقراطية الحقيقية يوالي الناس ويعارضون حسب برامج سياسية واضحة تطرحها الاحزاب المتنافسة وعندنا يكون الولاء قبليا أو مناطقيا وفي غالب الاحيان مصلحيا لا علاقة له بأي نوع من التفكير السياسي أو الالتزام الاخلاقي الذي تفترضه المواقف التي تشكل الرؤية للموالي والمعارض علي حد سواء. وكي لا نغرق في الجانب النظري أمامنا حالتان من حالات الربيع العربي نجحت ثورتهما ووصل شعباها إلي صناديق الاقتراع وافرزت نتائج انتخاباتهما تركيبة يصعب فهمها بقوانين الديمقراطية ومصطلحاتها وهما تونس ومصر، وفيهما حقق الاسلاميون نسب نجاح متوقعة لكن غير المتوقع ان يعود فلول النظامين باعداد ملحوظة، ودم شهداء الثورات لم يجف بعد من الشوارع. من الناحية النظرية اتفق منظرو الديمقراطية وأشهرهم البروفيسور الاميركي أ.س. دال، علي ان الديمقراطية الحقيقية يجب ان تحقق لها عدة شروط أهمها الا يكون هناك تدخل خارجي ولا تمويل من خارج البلاد للاحزاب المتنافسة، ويليها الاتفاق الجماعي علي الاقتصاد الحر، ثم خضوع اجهزة الامن والجيش لهيئات سياسية منتخبة. وقد شهدنا كيف آقام المجلس العسكري المصري الدنيا ولم يقعدها بشأن التمويل الخارجي لمنظمات المجتمع المدني، وله كل الحق في ذلك لكن الذي لم نشهده لا بعد الانتخابات المصرية ولا قبلها التدقيق في ميزانيات الاحزاب، للتأكد من انها لم تأت من مصادر خارجية تريد التأثير علي مجريات السياسة المصرية. وفي تونس فاز فلول النظام السابق بربع مقاعد البرلمان التونسي تقريبا، وكانت الاموال التي ضخها رجال الاعمال الموالين لزين العابدين بن علي هي اساس ذلك النجاح يضاف اليها دعم بعض الاعلاميين في الخارج الذين صنعهم نظام المخلوع وسمنهم بانتظار لحظات من هذا النوع الذي تستغله فئات خرجت من باب الاستبداد، وتريد العودة للحكم من نافذة الديمقراطية. وهنا قد يقول معترض: هذا حقهم ما دام الشعب قد صوت لهم وما داموا قد عادوا عبر صناديق الاقتراع، ولا غبار علي هذا الاعتراض من حيث الشكل لكن للديمقراطية اصول وقواعد يجب مراعاتها، وحين لا تراعي تلك القواعد يحصل الخلل وتتحول الديمقراطية إلي كلمة حق يراد بها باطل، فكل الذين خلعوا والذين لم يتم خلعهم بعد كانوا يزعمون ان الشعب اختارهم و ان شرعيتهم اتت عبر صناديق اقتراع و استفتاءات ذات صبغة معينة. وهنا وكي لا نبالغ في سقف التوقعات تجدر الاشارة إلي أننا في بداية الشوط وان التجارب الديمقراطية حالة تراكمية تتحسن مع الزمن فالبريطانيون وهم اعرق الديمقراطيات علي صعيد العالم يحسنون ويطورون ديمقراطيتهم منذ عدة قرون ويعيدها بعضهم تاريخيا إلي وثيقة »الماجنا كارتا« التي حددت سلطة الملوك منذ القرن الثاني عشر الميلادي. ولا شك اننا قادرون علي تطوير تجاربنا بشرط الا تترك حبل التطبيق علي الغارب وان يتم التقيد بشروط الديمقراطية الاساسية السالفة الذكر وأخطرها التمويل الخارجي وادراك خطورة وقدرة رءوس الاموال الخارجية علي التأثير في الشأن الداخلي، فالمال استعمار ناعم لا يحضر، ويسيطر بالدبابات والطائرات والبوارج الحربية لكنه يدخل من خلال »احصنة طروادة« محلية تنفق علي حملاتها الانتخابية من اموال الخارج وتنجح بها، ثم تقع تحت سيطرتها، وتضطر لرد الجميل بالتنازل عن بنود كثيرة لا يجوز التنازل عنها في الاجندات الوطنية.