الإحياء شعارُ حضارةٍ، وميراثُ نبوّةٍ، ومقصدُ دينٍ، وبرنامج عمل، وإجراءات تشغيل، وصناعة مؤسسات، وروح سارية، تتجلي علي الأنفس والعقول والهمم، فتتجدد الشخصية الصانعة للحضارة، وتتجدد العلوم والمعارف، وتتضح المسالك التي تنحل بها الأزمات المزمنة. الإحياء واجب الوقت، وضرورة العصر، ونداء الوطن، والاحتياج الملح الذي يستشعر الناس شدة حاجتهم إليه. الإحياء روح جديدة تنبعث في القلوب، فتنصهر أمامها الأزمات الخانقة، والمعضلات المتراكمة، ويتجدد الأمل، ويعقد الناس العزم علي النهوض إلي الإنجاز، واجتياز الحواجز التي تسللت إلي القلوب والهمم، فشاخت، وتهدَّمتْ، وترهَّلتْ، وتَيَبَّسَتْ، ويَأِسَتْ، وغَرِقَتْ في بحر من الهموم، والتعقيد الممتد المتبادل، في نظم الإدارة، والطرق والمواصلات، والحياة كلها. الإحياء شعار تكلم به الوحي، وأشار إلي أنه مستويات متعاقبة، وأدوار متراكمة، يفضي بعضها إلي بعض، فقال سبحانه: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (سورة المائدة، الآية 32)، فجعل إحياء النفس الواحدة كإحياء البشرية كلها، مما يشير إلي أن إحياء البشرية كلها وإحياء الناس جميعا هدف بعيد، ومقصد أعلي، لابد من أن نلمحه، ونضعه في الاعتبار، ونسعي إليه، وأن يكون قيمة كامنة في أعماق وجدان الإنسان المسلم، لأن الله تعالي جعله مقياسا عاليا، وإطارا كبيرا، حتي شبه إحياء النفس الواحدة في الجلالة والأهمية والعظمة كأنه ينزل منزلة ذلك المعني الأفخم الأعظم، والذي هو إحياء الناس جميعا، فكيف بمن تعلق بالفعل بإحياء الناس جميعا، حياة كاملة، ذات رخاء وسعة، تمتد من الدنيا إلي الآخرة، ويصان فيها الإنسان عن أسباب الأذي في الدنيا والآخرة. هكذا كان يغرس القرآن الكريم مقاصده العليا في أعماق الوعي الإنساني، ليترك لمحة من النور تتغلغل في أعماق عقله ووجدانه، أنه يحمل للناس جميعا قيمة الحياة، وأنه يسعي للإحياء، ويقرب للناس معاني الإحياء، ويوقد لهم سراج العلوم والمعارف والآداب والفنون والتي تنتظم بها شئون الدنيا والآخرة. الإحياء يتحقق بالحفاظ علي النفس البشرية أولا، معصومة الدم، موفورة الحرمة، تبذل لها عشرات الإجراءات الإجراءات والمسالك والتصرفات التي تبقيها علي قيد الحياة، وتصونها من الموت والقتل والهلاك بكل السبل والسوائل، ليتم بهذا الطور الأول من أطوار الإحياء، تمهيدا لابتداء الطور الثاني، والذي هو صيانة هذه الحياة من الفقر والمرض والأمية والهوان والتشريد والنزاع والجهل والخداع والتحايل، وتوفير أسباب الحياة الكريمة، ورواج العلوم والمعارف، واستقرار نظم المعيشة من القوانين والأعراف والآداب، التي تجعل احتكاك البشر بعضهم ببعض ميسورا، خاليا من العدوان والتعدي. فالمستوي الأول هو حفظ النفس الإنسانية من الهلاك، والمستوي الثاني هو حفظها من الحياة المنغصة المؤلمة الفقيرة العدوانية، وإطلاق المؤسسات والوقفيات والمعاهد والمزراع والأعمال والحرف والمهن والصنائع والتجارات، وفنون البحث العلمي المبدع، ومؤسسات التعليم، مما يكفل للحياة ذلك، مع توفير نظم التشغيل الآمنة، التي تعظم الفائدة في ذلك كله، حتي يأتي المستوي الثالث من الإحياء، والذي هو تثقيف العقل والفهم بترتيب العلوم والمعارف حتي تهتدي به إلي الله، حتي ينشأ المستوي الثالث من الإحياء، والذي هو إحياء الصلة بالحق جل جلاله، مع معرفته وتوقيره، وتشغيل نظم الحياة بما لا يشوش العقل في سيره إلي الله، فقال تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (سورة الأنفال، الآية 24)، فهذا مستوي جديد من الإحياء، استجابة لله ولرسوله صلي الله عليه وسلم. ولقد تأملت نموذجا من هدي النبوة الشريف في الإحياء، فرأيت أنه صلي الله عليه أمرنا مثلا بمراعاة حق الطريق، وأن نعطي الطريق حقه، وألا نضيق علي الناس طريقهم، حتي اجتهد علماء الحديث النبوي الشريف في تتبع كل حديث نبوي كريم ورد فيه حق من حقوق الطريق، فوصل الرصد العلمي الواسع عندهم إلي ثلاثة عشر حقا من حقوق الطريق، صاغها الإمام ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري في أبيات من الشعر ليسهل حفظها، وكنت أستحضر ذلك كله أثناء سيري في الطريق علي قدمي، أو راكبا، فأري أزمة خانقة للمرور، وتعديا علي الشارع، مع منظومة سلوكية مفعمة بالجشع والأنانية، واستحضار الأنفس الشح، وأن كل شخص يسرق الطريق من أخيه، ولا يبالي به، ويزاحمه، ولا يوسع له ولا يؤثره، مما يجعل النفوس تضيق، ويقل صبر الناس علي بعضهم، ويخرج الإنسان من طريقه إلي مقصده في بيته أو عمله بنفس موغرة ساخطة، فكنت أري أمامي نموذجا نبويا لإحياء جانب من جوانب حياة البشر، بأن علما أن نعطي الطريق حقه، وأن تمتليء نفوسنا بالجود والكرم في الطريق، وأن يتسع صدر بعضنا لبعض، وأن يقرر كل واحد منا أن يلزم نفسه بآداب الطريق وقوانين السير، لا لشيء إلا إكراما لهدي النبوة، واستجابة لله ولرسوله إذا دعانا لما يحيينا، فخطر لي أن نطلق حملة إعلامية، في الصحف والإذاعات والفضائيات والسوشيال ميديا، والمساجد الدروس وخطب الجمعة، مع النزول إلي أماكن تجمعات السائقين للمواصلات العامة، لتدشين حملة (حق الطريق، حياة، وميراث نبوة)، أو أي شعار يكون، وأثر هذا مهم جدا، لأننا يمكننا أن نصنع مثله في مختلف الآداب والأخلاق، والمعاني، والمرافق، لإعادة بناء معالم الشخصية الأصيلة، المفعمة بقيم الحياة، الحافلة بالهمة والإرادة، والتي تخترق الحواجز النفسية الهائلة التي تراكمت علي نفسية الإنسان وعقله ومشاعره، فجعلته مبرمجا آليا عند ركوب سيارته علي أن يزاحم ويتشاجر ويسخط، ويفرط في أنانيته، وتمتليء نفسه بحالة غريبة من تمني السوء للجميع إلا نفسه، وأنه يريد أن يسير في الطريق كأنه له وحده، ويصر علي أن يستوفي حظ نفسه، ويضرب عرض الحائط بحقوق كل من حوله، في حين أن كل شخص لو قرر في أعماقه أن يكون كريما بالطريق، يجود به، لوسع هو الناس، ووسعه الناس، حتي يرحم الناس بعضهم بعضا، اللهم نور بصائرنا، واجعل الإحياء روحا سارية، وبعثا جديدا، يسري في مصر والمشرق والوطن العربي والأمة الإسلامية كلها، حتي نقفز إلي روح اليقظة التي طال انتظار أوطاننا إليها، وسلام علي الصادقين.