فأبناء «النوبة» معروفون بعزة النفس وصدق القول والأمانة المطلقة والتآلف فيما بينهم بشكل لم نر له نظيراً لدي غيرهم تشدني تجاه «النوبة» وأبنائها علاقات وثيقة، فعندما كنت نائباً للقنصل المصري في «لندن» عام 1971 ساهمت بحماس في إنشاء نادي «النوبة» بالعاصمة البريطانية وذلك من خلال زملائنا في السفارة من أبناء ذلك الجزء العزيز علي قلوبنا من الدولة المصرية، ولازلت أذكر حواراً ساخناً وطريفاً بين الحاج «سعد عبد السلام» كبير طاقم الخدمة بالسفارة وبين الوزير المفوض الذي صرخ فيه قائلاً «أنا تركي دمي حامي» فرد عليه الحاج «سعد» «وأنا نوبي دمي أحمي منك»! فأبناء «النوبة» معروفون بعزة النفس وصدق القول والأمانة المطلقة والتآلف فيما بينهم بشكل لم نر له نظيراً لدي غيرهم، فالقادم الجديد منهم يبحثون له فوراً عن عمل، وإذا خلا موقع استقدموا من أبناء العمومة في «النوبة» من يأتي ليشغله خلال أيام قليلة، فالترابط الاجتماعي وجو المودة الهادئة والمحبة العميقة يربطهم ببعض وبغيرهم أيضاً ممن يثقون فيهم ويحبونهم، ولقد ذهبت مع بعض قياداتهم إلي حي «ايرلزكورت» في «لندن» حيث بدأنا اختيار مقر الرابطة التي أصبحت عضويتها مقصورة علي المصريين والسودانيين من أبناء «النوبة»، وعندما كنت سفيراً في «النمسا» قمت معهم بعمل مماثل، ولا أنسي يوم توديعي في مطار «فيينا» عند انتهاء خدمتي وكيف احتشد العشرات منهم في محبة ظاهرة وحرارة شديدة رغم الطقس البارد فالمشاعر الدافئة تلطف الأجواء وتربط بين البشر، ولازلت متواصلًا مع الكثيرين من أبناء «النوبة» الذين خدموا معي في «لندن» و»فيينا» وقد بدأ بعضهم يدخل مرحلة الشيخوخة المتقدمة ولكن مستودع الذكريات مفتوح ولازالت حبال الود موصولة، لقد قصدت من هذه المقدمة أن أوضح أن حماسي لبلاد «النوبة» هو جزء من حماسي للحضارة الفرعونية والتاريخ المصري العريق، فهم حراس الحدود الجنوبية الذين قدموا تضحيات غالية للوطن المصري بدءاً من بناء خزان «أسوان» وتعلياته المتعاقبة وصولاً إلي التضحية الكبري عند بناء «السد العالي» لذلك فهم يتطلعون إلي الوطن الأم لتصحيح أوضاعهم وحل مشكلاتهم حتي أن ذلك قد ورد نصاً في الدستور المصري الجديد ولقد قبلوا طواعية عند بناء «السد العالي» توطينهم شمالاً جنوبي «أسوان» علي أمل أن يتم البناء لهم علي شواطئ «بحيرة ناصر» ولكن البناء الذي تم وأشرفت علي تشييده القوات المسلحة المصرية عندما كان القائد العام هو المشير «محمد حسين طنطاوي» لم يلق قبولاً لدي معظمهم واعتبروه التفافاً علي مطالبهم العادلة تحقيقاً للوعود المتعاقبة، وأنا شخصياً أري أن أهلنا في «النوبة» نموذج رائع يتألق في إطار الشخصية المصرية بل وفي امتدادهم داخل «النوبة السودانية» أيضاً فهم مسالمون طيبون لم يعرفوا العنف أو الجريمة إلا عندما اختلطوا بأبناء الوادي في الشمال، ولقد زرت مؤخراً مقهي رائعاً يستأجره ويديره شاب نوبي متألق هو السيد «خالد حجي» الذي عاش في «أمريكا» و»أوروبا» ثم عاد إلي أحضان الوطن ليستقر في هذا المشروع الناجح، وهو يحكي لي تفاصيل مهمة عن المسألة «النوبية» ومحاولات القوي الأجنبية استغلالها في ظل الظروف الصعبة للوطن المصري، ولكن النوبيين وهم مصريون أصلاء يدركون أن بلدهم «مصر» لن تتخلي عنهم ولن تخيب أملهم لأنهم جزء غال وعزيز من جسد الوطن وضمير الأمة، وأنا شخصياً تستهويني مثل الملايين غيري الأغاني «النوبية» والرقص الشعبي المرتبط بها، وأتذكر الآن عندما كنت أعمل مستشاراً للسفارة المصرية في «الهند» أن فرقة الفنون الشعبية «النوبية» قد زارت تلك الدولة الضخمة المعروفة بثقافتها العريقة وفنونها المتنوعة ولكن الفرقة «النوبية» شدت انتباه «الهنود» بشكل ملحوظ واكتسبت استحساناً منقطع النظير ولا عجب فالفن النوبي علامة دولية مميزة ولعل صوت الفنان المعروف «محمد منير» هو تجسيد لذلك، إن «النوبة» قطعة غالية من أرض «مصر» يتمسك أهلها بوطنهم ويحرصون علي سلامته ووحدته ويدركون أن مشاكلهم لابد وأن تحل في إطار الوحدة الوطنية التاريخية، وهم أيضاً لا يستمعون إلي الدعايات المغرضة أو الثعابين التي تنفث سمومها في جسد الوطن المصري العظيم.. تحية ل»النوبة» ثقافة وبشراً وروحاً متوهجة لا تخفت أبداً. العرب والآثار الفرعونية كنت أتوهم دائماً أن أشقاءنا العرب لا يتحمسون لزيارة الآثار الفرعونية عندما يزورون «مصر» وأنهم يكتفون بالآثار الإسلامية وحدها، ولكنني اكتشفت أن نظرتي كانت محدودة وأن معظم العرب ينظرون حالياً بتقدير واهتمام للحضارة الفرعونية القديمة باعتبارها الحضارة الأم في المنطقة، فضلاً عن أن العرب يعتبرون المصريين القدماء بمثابة أخوالهم بحكم الهجرات المتبادلة والتداخلات البشرية عبر العصور حتي أن «المملكة العربية السعودية» ممثلة في جهازها الثقافي والسياحي قد دعت منذ شهور قليلة الأثري المصري الكبير د.»زاهي حواس» لزيارة رمزية للمملكة تؤكد تقديرهم للآثار المصرية وحرصهم عليها أقول ذلك وقد تعرضت المتاحف الأثرية في عدد من الدول العربية مثل «العراق»و»سوريا» وربما «مصر» أيضاً لنوع من العدوان الهمجي علي بعض المقتنيات الأثرية والعبث بها وتخريبها والإتجار فيها في ظروف «ثورات الربيع العربي» وعلي يد التنظيمات الإرهابية المتوحشة في الشهور الأخيرة، وتعتبر عمليات السطو علي الآثار وتدمير التراث عدواناً علي الحضارة الإنسانية كلها، لذلك فِإن منظمة «اليونسكو» ومديرتها الحالية قد أصدروا من البيانات ما يؤكد حالة الفزع العالمية من المساس بالآثار القديمة مثلما يحدث الآن، ولا شك أن تعرض المنطقة العربية للخطر قد أدي إلي إغلاق بعض المتاحف ونقل عدد من الآثار إلي مناطق آمنة بعيداً عن يد الشر والعدوان، ولا بد أن نقول هنا أن ما جري قد أدي إلي مصالحة ضمنية بين حضارات المنطقة وجعل العرب يتطلعون إلي الآثار «الفرعونية» و»الفينيقية» و»الفارسية» بدرجة واحدة مادامت كلها قائمة علي الأرض العربية، ولازلت أتذكر من عملي في مؤسسة الرئاسة منذ ثلاثين عاماً تقريباً وأثناء زيارة رئيس دولة «الإمارات العربية» الراحل الشيخ «زايد بن نهيان» ل»معبد أبو سنبل» كيف قضي ذلك الضيف الكبير وقتاً طويلاً في صحبة الرئيس الأسبق «مبارك» يتأمل ذلك الأثر الفرعوني ويوجه أسئلة للمرشد السياحي الذي كان يصحبنا، ولذلك فإنني أقول إن أشقاء «مصر» يعرفون قيمتها الحقيقية وتراثها العريق كما أن غرامهم «بمصر» أرضاً وشعباً هو التصاق تاريخي وتواصل حضاري وارتباط بشري. في البحث عن الكفاءات أشعر في كثير من الأحيان أن «مصر» من أكثر الأوطان تفريطاً في الكفاءات وإهدارا للموارد البشرية فنحن لا نتعامل مع ما لدينا من خبرات إنسانية بالقدر الواجب بل نمضي علي طريق يؤدي في النهاية إلي ضياع جزء كبير مما نملك، ولقد جرت في العقود الأخيرة عملية تجريف كبري للرصيد الوطني من أصحاب القدرات والكفاءات والعقول المتميزة بل إنني أنظر حولي أحياناً فأكتشف تبديداً واضحاً لخبرات نادرة وتخصصات فريدة وما أكثر ما يتحدث المرء إلي بعض العلماء المغمورين والمفكرين المصريين الذين جري استبعادهم دائماً لأن النظم السياسية المتعاقبة لم تمتلك الإرادة التي تجعلها تبحث في موضوعية وتجرد وانتقاء الأفضل للموقع الأنسب، وأزعم أنني أصادف أفكاراً متوهجة تصدر من شخصيات عادية ولكنها لا تجد طريقها إلي السطح فبلدنا بطبيعته قاهر لأصحاب القدرات، طارد لأهل الكفاءات، كما أن لدينا في كل فرع من فروع الحياة جيشاً كبيراً من العلماء والمتخصصين ولكننا لا نلجأ إليهم بل ولا نعترف بهم، وأظن أن النظام الوطني الحاكم حالياً سوف يسعي إلي انتقاء الكفاءات واختيار الخبرات طلباً لتعظيم الفائدة وسعياً نحو حل المشكلات القائمة دون استبعاد أو إقصاء بسبب أصل طبقي أو عقيدة فكرية أو ديانة روحية مادام المرء في النهاية مواطنا مصريا لا غبار عليه قانونياً وأخلاقياً، بل إن العالم حولنا يستفيد بالعلماء المصريين بينما وطنهم لا ينال خبراتهم ولا يشجع علي الإفادة منهم، وقديماً قالوا «إن شاعر الحي لا يطربه» لذلك فإنني أتمني علي بلادي أن تبحث بأسلوب غير تقليدي عن أهل المعرفة والخبرة والكفاءة لأنهم سوف يصبحون أهل ثقة بعد وقت قليل حين يقتربون من مواقع السلطة ومراكز القرار السياسي، لقد عشت في «الهند» سنوات وعرفت كيف تستفيد تلك الدولة العظيمة من علمائها في الداخل والخارج فإذا سمعوا عن عالم في الاقتصاد بإحدي الجامعات الأمريكية أو الأوربية واكتشفوا أنه من أصل هندي فتحوا له الأبواب ليقدم خبراته المتراكمة وعلمه المعترف به، ولقد اكتشفت أن كثيراً من العلماء «الهنود» في العالم يعودون إلي وطنهم الأم شهرين كل عام يدخلون المعامل في الجامعات ومراكز البحث العلمي ويقدمون المشورة في كل القطاعات بدافع وطني بحت ودون مقابل منتظر! حالة حرب لا نستطيع أن نسمي ما يدور حولنا الآن إلا بأنه حالة حرب حقيقية سواء علي المستوي الإقليمي أو المحلي إذ أن جحافل «داعش» الإرهابية تعيث في الأرض فساداً، تقتل وتذبح وترجم وتحرق وتغرق، ولا يخالجني شك في أنها مدعومة من قوي دولية وأجهزة استخباراتية لأن مهمتها المحددة هي تخريب المنطقة وتمزيق شعوبها وتقسيم دولها، وذلك هو هدف من لا يريدون خيراً للعرب ويتجهون إلي تغيير خريطة «الشرق الأوسط» دون وعي بتبعيات ذلك علي مستقبل العالم كله، ف»الإرهاب» لا وطن له بل هو عنف عشوائي يبتغي الدمار ويعادي الحياة ويرفض الحضارة، لذلك يجب أن تتكاتف الجهود الإنسانية كلها لدرء هذا الخطر الداهم واحتواء الشباب المغرر به والتوقف عن تقديم الخدمات «اللوجيستية» لبعض المنظمات الإرهابية مثلما تفعل «تركيا» التي تدعم تنظيم «داعش» بشكل غير مباشر لأهداف لا تخفي علي أحد، وإذا انتقلنا من الصعيد الإقليمي إلي المستوي المصري والوطني فبلدنا في حالة حرب حقيقية، إن جيشنا يحارب معركة ضارية في «سيناء» وتقف طلائعه البحرية علي حدود «اليمن» ويرصد بشدة ما يجري من محاولة لتمزيق النسيج الليبي وخلق حالة من الاضطراب المستمر في تلك الدولة الجارة بحيث تكون النهاية هي وضع الشعب المصري وجيشه في حالة ترقب دائم وتوتر مستمر ومعركة لا تتوقف مع من يستهدفون «الكنانة»، وسوف تظل «مصر» مستهدفة لأنها الدولة الكبري في المنطقة وذلك من خلال سلسلة من الاغتيالات الغادرة وعمليات العنف الجبان وتعويق الاقتصاد الوطني وضرب الديمقراطية، فالمطلوب ل»مصر» ألا تحلق وتنطلق والمطلوب أيضاً ألا تغرق وتسقط، ففي الحالة الأولي يخشون من دورها، وفي الحالة الثانية يخشون أيضاً علي المنطقة كلها إذا أصاب «مصر» مكروه لا قدر الله، فهم يريدون «للكنانة» أن تطفو فقط علي سطح الماء ولا تستطيع التقدم بجسارة وقوة، بل إنني أشعر أحياناً أن «مصر» تعاني من غيرة دولية وإقليمية بسبب عمقها الحضاري وامتدادها الثقافي ودورها التنويري وقوتها الناعمة المطلوبة في كل زمان ومكان، وسوف تبقي «مصر» رافعة أعلامها مرددة نشيدها عصية علي عدوها فقد خاطب الله نبيه «موسي» علي أرضها ولجأت «العائلة المقدسة» إليها وتزوج نبي «الإسلام» منها وجاء ذكرها في العهدين «القديم» و»الجديد»، كما احتفي باسمها «القرآن الكريم» في مواضع عدة.. فليستيقظ شعبها ولتتماسك جبهتها الداخلية لأننا في حالة حرب حقيقية!