«للشاعر فؤاد حداد إشراقات شعرية كاشفة للحقائق الكونية، في ديوانه من «نور الخيال وصنع الاجيال» المكرس لتاريخ القاهرة قرأت...» يقول الشاعر العبقري الأعظم فؤاد حداد: «الذكري حياة تانية..» نعم يا عم فؤاد، يا من لم تكتشف حتي الآن. الذكري حياة تانية: نعم الوجود الحقيقي في الذاكرة، من خلالها يمكن أن نري المستقبل، وان نستعيد الماضي وفقا لقوانين خفية نرتب مضمونها ونتحكم فيه، حتي الآن لا نعرف بالضبط القوانين التي تستدعي لحظة دون الأخري، تبرز ملامح لشخص غاب عنا لا نعرف اسمه، وتخفي من خيّل الينا اننا لن ننساهم ابدا، ماعشته يمثل في ذاكرتي، معظمه يخصني وحدي، انها ذاكرتي الفردية التي تصيغ وتشكل ملامحي الآن، لست إلا محصلة هذه الذاكرة، نتاجها، إذا اضطربت، إذا اختلت قوانينها أصبح معلقا في هاوية العدم فلا أمس ولا غد، ولا حاضر ولا مستقبل، هذا ما عرفته في اولئك الذين قدر لي أن أعرفهم من مرض الزهايمر، لذلك أوقن ان الحياة ذاكرة، الحياة ذكري، لذلك نحن ما نتذكره، لكن الذاكرة ليست صورة طبق الأصل، ليست خزانة لما كان، وليست اطارا لما سيكون، إنها عملية خلق مستمرة، فالماضي يستدعي ما نرغبه، ما نريده طبقا لظروف ما يحيط بنا، أي الحاضر، ولما كان الحاضر ليس قائما، إنما يفلت باستمرار، هذه اللحظة الآن بمجرد أن انطق «الآن» تصير إلي ماضي، وتلك التي لم تأت بعد إذا قُدر لي ولها أن نتقابل فإنها سرعان ما ستولي، سرعان ما تصبح ذاكرة، لذلك أقول إن الاتي أيضا ذاكرة، ان الاستعادة الدائمة لما كان تتغير مع مراحل التقدم في رحلة الحياة، وفي كل مرة يمكن أن نكون قصصا عن أنفسنا من خلال ما تبقي، وهنا يمكن اعتبار الحكْي هو ادق وعاء يمكن أن يصون قدرا مما كان، من الذاكرة. إذا كان كل شيء يمضي إلي مناطق معتمة فإن الحكي هو ما يحتفظ بالذاكرة، ليس بتفاصيلها، إنما جوهرها، دلالات ما مر بالانسان من أحداث وأشواق ورؤي، أما تلك المناطق العتمة، التي لا يمكن أن نتبين ما تحتويه، فهي ما نعرفه باسم النسيان، النسيان ذاكرة مضادة، علاقة النسيان بالذاكرة اشبه بعلاقة الفراغ بالامتلاء، فلولا فراغ الإناء ما كان ممكنا له أن يمتلئ. أو يتخذ شكله، لذلك كان العدم ضروريا للوجود، وكان النسيان لازما لعمل الذاكرة، لذلك أضع الذاكرة والنسيان معا، كلاهما وجه للآخر. ثمة حكاية قديمة هائمة في فضاء ذاكرتي، لا يمكنني الآن نسبتها إلي مصدر، تقول إنه بعد أن توصل حكيم مصري إلي اختراع الكتابة قصد الفرعون ليطلعه علي النبأ العظيم والاكتشاف المذهل، قال إنه توصل إلي وسيلة لصون ما يفني، أجاب الفرعون قائلا إن الفعل عظيم لصون الذاكرة، غير أنه حددها، الكتابة ثم اختراع المطبعة وصولا إلي الوسائل الرقمية محطات مهمة لصون الذاكرة، للحفاظ عليها وتأخيرها أيضا، هذه الحكاية ضمنتها عملي الأخير «حكايات هائمة» وأعتبره تجاوز التجاوز ولهذا حديث طويل. لكل انسان وجوده الخاص، أي ذاكرته الخاصة، وهذه الذاكرة الفردية تتوازي مع صاحبها، يصعب تبديل مضمونها أو تزييفه أو محو جزء منه لاحلال آخر، الذاكرة الفردية تعني الحضور، الوجود، السيرة، حتي وإن بقيت مجرد اسم متداول، لذلك كانت الذاكرة محور وجوهر الحضارة المصرية القديمة التي رفض المصريون القدماء من خلال ما انجزوه العدم، فتخيلوا امتدادا للواقع المعاش في اللاوجود، في العدم، يخاطب الموتي الاحياء في مصر منذ آلاف السنين رغم تبدل العقيدة، يطلبون منهم أن يتذكروهم، أن ينطقوا باسمائهم، في العقيدة المصرية القديمة الاسم أحد مكونات الوجود، بل انه بعد الموت، أي بعد وضع حد للذاكرة الفردية، يصبح الاسم بديلا للوجود، مجرد النطق به يعني دفقة حياة جديدة، وللاسم في الثقافة المصرية القديمة شأن عظيم، غير ان الحضارة المصرية التي أوجدت الوسائل لصون الذاكرة، قد راحت هي ضحية لتزييف الذاكرة، تزييف الذاكرة الجماعية عمل منظم يتم فيه استخدام وسائل متعددة، منها الدين واعادة صياغة وقائع التاريخ، وهذا ما حدث بالنسبة للحضارة المصرية القديمة التي اعتبرت وثنية من وجهة نظر الديانات الثلاث المتعاقبة، وساد هذا الاعتقاد حتي بدأت عملية انصاف وتصحيح منذ القرن السابع عشر وتزايدت بعد اكتشاف اسرار الكتابة المقدسة التي نُسبت رغم انها كتابة الكتابة، أي الكتابة التي تم تدوين الكتابة كفعل انساني للتذكر، مضاد للنسيان، لكن مازال هذا الإنصاف قاصرا علي المتخصصين، وفي حدود ما قرأت اشير إلي الجهود العلمية لعلماء المصريات الفرنسيين، والاستاذ جان اسمان عالم المصريات بجامعة ميونيخ وله مؤلفات مهمة في موضوع الذاكرة الحضارة، عبر الادب عن عملية تزييف الذاكرة الجماعية ادق تعبير في (العالم سنة 1984) لجورج اورويل عندما كان يعاد انتاج الماضي، وفي العصر الحديث يمكن القول إن كل ثقافة معاصرة تعرف هذا النوع من التزييف، ومن ناحية أخري نشهد صراعا محوره الذاكرة، حيث تحاول ذاكرة ازاحة ذاكرة أخري والمثال علي ذلك ما يجري لأرض فلسطين وللشعب الفلسطيني، الذاكرة أحد المحاور الرئيسية للصراع العربي الإسرائيلي عامة، والفلسطيني الإسرائيلي خاصة. عندما تتواري ذاكرة في الذاكرة المضادة أي النسيان، ربما يتم استبدالها بذاكرة وهمية، أجد مثالا علي ذلك في التاريخ المصري، فعندما توارت الحضارة المصرية القديمة بسبب تغير العقيدة، لم تختف النصب والمباني الشاهقة التي كانت جدرانها بمثابة كتب مفتوحة غامضة منسية مستعصية، ان وصول العديد منها إلي زمننا الحالي يعتبر معجزة لما لحق بها من تدمير نتاج التعصب والجهل بما كان، لكم حيرت هذه الآثار أبناء الاجيال المتتالية بعد نسيانهم لغة الأجداد وتحول حروفها إلي رموز، هنا تبرز محاولة ايجاد تاريخ اسطوري وهمي، متخيل، ونقرأ تفاصيله في جميع كتب المؤرخين العرب الذين دونوا التاريخ المصري وكانوا يحاولون ايجاد تفسير لهذه الآثار، الذاكرة البديلة لا تتعلق فقط بالماضي البعيد غير المعروف، لكن احيانا يتم اختلاقها لتبرير وضع راهن، أو رؤية سياسية معينة، أو لتبرير ظلم وقع علي جماعة انسانية معينة. انني اوقن يوما بعد يوم، خاصة مع التقدم في العمر، واتساع المسافة بين لحظة البداية واللحظة الراهنة، وقرب المدي من اللحظة المؤدية إلي الابدية، من هذه اللحظة التي أمر بها اوقن أكثر من أي وقت اخر، ان الحياة مجرد ذكري، من هنا اقدمت علي تدوين ما مررت به في تلك الدفاتر التي بدأتها عام ألف وتسعمائة وتسعين وأسميتها دفاتر التدوين، لعلي أقدر بالكتابة أمسك بما يستعصي علي البقاء - ولو بالذاكرة - أي الحياة نفسها. عن الأمس الخميس : عندما أنثني لتفحص ما كان مني، تبدو لحظات البدايات المتبقية ناصعة، بما حوت، هكذا الأمر عندما يقترب طرفا الدائرة من بعضهما، طرف النهاية يصير قريبا من البداية، في اتحادهما التمام والكمال والانتهاء. هكذا أصغي إلي سؤالي القديم الآن، هكذا اكتشف ان أعمق الاسئلة نطقتها طفلا، وليست الرحلة بما حوت إلا محاولة لتلمس الاجابات أو الوقوف علي ما يقربنا منها، السؤال الذي علق بي، وشكل دافعا ومحركا رددته بيني وبين نفسي طفلاً «امبارح راح فين؟». الأمس، اين ذهب؟ تلك اللحظة المقابلة سرعان ما تولي، تفني، تمضي، نحن دائما في حالة عبور لا تبقي، لا تستقر وإلا صار العدم، من أين تجيء، إلي أين تولي؟ هل لها بداية، اذن.. ماذا كان قبل البداية؟ هل بدأت البداية في بداية اخري، هل الأمر سلسلة تفضي كل حلقة إلي اخري، أم ان هناك بداية للبدايات كلها؟ السؤال صعب، ولكنه دافع، لعله السبب الأول لمحاولتي معرفة ماذا جري قبلي، وقبل الذي كان قبلي؟ في الدرب العتيق الذي عرف أول سعيي أتوقف عند ساحة معينة من الأرض، بلاطة، موطيء خطو، اتساءل: من مرّ هنا قبل يوم، قبل شهر، قبل ألف عام؟ من عبر ولم يعد، ومن عاد، من بعدي؟ أحيانا اتقمص نظر من سيسعي في زمن لن اكون فيه، اري الدنيا الخلو مني، لا أعرف مستقر ذراتي المكونة لي وقتئذ، عندما أتفرق عن بعض، أليست الحياة جمعاً، والموت تفرقة العناصر عن بعضها البعض؟ قادني السؤال إلي مدونات التاريخ، ارتحت إلي قراءة الحوليات، تلك السطور، التفاصيل التي دونها من عاشوا قبلي، خاصة المؤرخين من القاهرة القديمة، بدءا من ابن عبدالحكم، صاحب فتوحات مصر والمغرب، وصولا إلي علي باشا مبارك في القرن التاسع عشر، غير ان ما ارتحت إليه مدونات ابن واصل، المقريزي، ابن تغري بردي، ابن حجر العسقلاني، ابن ايبك الصفدي، ثم ابن اياس، احببت طريقته في السرد، اكتمال البلاغة المصرية لديه عند المزاوجة بين الفصحي، والعامية، شجاعته في نقد الظلم، توقفه عند ادق التفاصيل بنفس عناية تدوينه الاحداث الكبري، أعدت اكتشافه مرة اخري بعد هزيمة يونيو عام سبعة وستين التي شكلت المحور الرئيسي لتجربة جيلي كله، اذهلني مدي التطابق، التشابه بين الأسباب المؤدية والنتائج في كلتا الحالتين، لماذا لم أحاول استعادة مرحلة تحقق فيها نصرا في الزمن المولي، لماذا أعدت استحضار هزيمة مماثلة؟ أهو الفضول؟ أهي الرغبة في معرفة كيفية التجاوز؟ حتي الآن لا يمكنني القطع، لكنني اكتشفت من خلال ذلك وحدة التجارب الانسانية رغم تغير الحقب والمراحل، عبر ابن اياس عني بدقة وهو يصف مشاعره مع انهيار السلطنة الملوكية، أنشد: نوحوا علي مصر لأمر قد جري عمت مصيبته كل الوري المشاعر المترتبة علي الهزيمة واحدة، كذلك الحب، الألم، الفقد، الشوق، الوحدة، هل يختلف شعور الأم الثكلي في اقدم العصور عن الأم الآن، هل الألم المنبعث من الجرح مغاير؟ هل تبدلت النشوة عند بلوغ الذروة الجنسية؟ وحدة التجربة الانسانية اذن هي ما يمكنني التنقل من عصر إلي عصر، تجسيد الظروف من خلال الالمام بأدق التفاصيل، عندما شرعت في الزيني بركات، وهو شخصية حقيقية قابلتني في معايشة تاريخ ابن اياس، حاولت الالمام بكل التفاصيل الخاصة بالوقت، أنواع الملابس، الاسماء الشائعة، الطعام، الشراب، لم اذكر الشاي لأنه لم يدخل مصر إلا في القرن التاسع عشر، أما القهوة فكان مختلفا عليها بين الفقهاء، حلال أم حرام، درست خطط القاهرة، أسماء شوارعها وحاراتها ودروبها وأزقتها، البنايات الكبري فيها، دينية أو مدنية، أسواقها، سجونها، اسماء الوظائف، العملات المتداولة، أدق التفاصيل نعم، لكنني قمت ببناء مغاير للعصر الذي شهده ابن اياس، وذلك للتعبير عن زمن آخر، زمني الذي عشته، الزمن الذي قُدر لي أن أشهده. كل لحظة حاوية بالضرورة لما قبلها ومنبئة بما يليها، الحاضر، ذلك المستحيل الذي يمر بنا أو نمر به، يطوينا طيا، لا يثبت لكي نتفحصه، لكنه حاو لما كان، مشيرا إلي ما سيكون. لا يوجد عندي حاضر، كل لحظة تمر بنا تصبح ماضيا، تصير إلي طي، لا فرق عندي بين لحظة انقضي علي مرورها خمس دقائق، أو خمسة ملايين عام، كلاهما لا يمكن استعادتهما، إلا بالذكري، بالتذكر، باستدعاء المخيلة. كل رواية، كل حكاية، يمكن اعتبارها تاريخية لانها تتحدث عن أمور جرت، عن ماض، لكن عندما نقرأها نستحضر زمنها فتصير حاضرا، عندما نقرأ الحرب والسلام، هل نقرأها باعتبارها رواية تاريخية، أم رواية المؤلف لزمن يعرفه وعاينه؟ عندما يمضي الروائي إلي زمن معين، فإنه يبحث عن شيء ما في زمنه هو، لا أفضل اعادة حكي ما جري في التاريخ، لكنني أستعيده لأضيء الحاضر، للتركيز علي قضية، علي مشكلة، علي موقف إنساني، انه القهر في الزيني بركات، القهر في مطلقه، مملوكي الاطار، معاصر المضمون، بل ومستقبلي أيضا، انه ما يوحد التجربة الانسانية عبر مسارات العصور المرئية، فهناك أزمنة نجهلها تماما، التاريخ مفهوم انساني، والزمن كوني، لا قبل لنا به، نري اعراضه ولا نعرف جوهره، أعرف انني لن أعرف، لكنني مع طرح الاسئلة ربما نصل إلي شيء ما، لا أتحدث عن نفسي، ولكن عن النوع الانساني، الاحساس بالتاريخ أهم من فهمه، الاحساس به يقف عند مفترق الزمن والتاريخ، التاريخ المدون ما يتم رصده عبر الظاهر، أما الفعل الروائي فإقدام علي تلمس الجوهر الكامن، ما لا يمكن رصده، ما يمكن استشرافه عبر الوجود الانساني المحدود في اطار علاقته بالزمن اللا محدود. لسنوات طوال شغلتني الصلة بين الزمان والمكان، في البداية ظننت المكان ثابتا لا يتبدل، وان الزمان يعبره، لكنني ادركت مع المجاهدة ان المكان ينقضي أيضا، تماما كتلك اللحظة العابرة، ولي في هذا تجارب وأحوال، اننا نفقد المكان كما نفقد الزمان أيضا، اذن، لا شيء يبقي، لا شيء يظل علي حاله، اذن، من يحاول مقاومة ذلك الطي المستمر؟ ذلك النسيان الذي نؤول إليه؟ انه الابداع الانساني نحتاً كان، أو عمارة يتوهم من يشيدها انها ستبقي بعد مضيه، أو رسما، أو نغيمة موسيقي، أو بيتا شعريا، أو نثرا، ليس هذا كله إلا تحديا للعدم، للنسيان، كل ما كتبت يندرج تحت هذا المفهوم، لكنني مررت بمراحل، من استدعاء زمن إلي زمن للتعبير عن مطلق التجربة وجوهرها، هذا ما حاولته الزيني بركات، أما تجاور الأزمنة وما حوته من تجارب وتوحد الشخوص فيما تدل عليه أو ترمز فحاولته في (كتاب التجليات) حيث يتضفر معني الاستشهاد من سيدنا ومولانا الحسين، إلي جمال عبدالناصر والوالد رحمه الله، ومن والاهم، ثمة محاولة مغايرة للتعبير عن جوهر الوقت وانقضائه في «هاتف المغيب»، أما المضمون الروحي لمصر القديمة فقد حاولت ادراكه في «متون الاهرام» و«سفر البنيان» وأعمال اخري ستصدر في مطلع العام المقبل، انه الزمن، سؤالي الأول الذي لم يتغير، وان تبدل منطوقه من ناحية الشكل، انه جوهر كل ابداع، يقول أبوالعلاء المعري: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الاجساد ويقول عمر الخيام في رباعياته (ترجمة أحمد الصافي النجفي) أنفض الغبار عن خدك برفق فربما كان يوما وجنة كاعب حسناء أم الشاعر الأمريكي والت ويتمان فيقول (ترجمة سعدي يوسف) إذا أردت ان تراني بعد ألف عام فأنظر إلي التراب تحت نعلك