التضامن الاجتماعي: نستهدف حوكمة إجراءات الأسر البديلة الكافلة بالتنسيق مع الجهات المعنية    قوات الدفاع الشعبى والعسكرى تواصل تنفيذ الأنشطة والفعاليات لدعم المجتمع المدنى    التعليم العالي: مكتب التنسيق الإلكتروني للقبول بالجامعات والمعاهد لجميع الشهادات يباشر أعماله هذا العام من جامعة القاهرة    سعر الدولار السبت 10-5-2025 أمام الجنيه المصرى يستقر عند 50.67 جنيه للبيع    المركزي للتعبئة العامة والإحصاء: ارتفاع معدل التضخم السنوي إلى 13.5% خلال ابريل    شعبة مستأجري عقارات الإيجار القديم: نرفض بند الإخلاء بعد 5 سنوات    بعد عملية عسكرية على الهند.. باكستان تنفي تحديد موعد لاجتماع هيئة نووية عليا    باكستان: واشنطن الوحيدة القادرة على تهدئة التصعيد مع الهند    إعلام عبري: إسرائيل تعتزم توسيع هجماتها باليمن وضرب أهداف بإيران    7 شهداء بينهم عائلة كاملة بقصف إسرائيلي على مدينة غزة الفلسطينية    باكستان: واشنطن الوحيدة القادرة على تهدئة التصعيد مع الهند    وزير الخارجية السعودي يبحث مع نظيريه الهندي والباكستاني جهود إنهاء المواجهات العسكرية    الرمادي يعقد جلسة مع لاعبي الزمالك قبل مواجهة بيراميدز    مواعيد مباريات اليوم السبت 10 مايو والقنوات الناقلة    هل أصدرت الرابطة قرارا بتأجيل مباراة القمة 48 ساعة؟.. ناقد رياضي يكشف مفاجأة (فيديو)    جوارديولا يعترف: هذا أصعب موسم في مسيرتي    تفاصيل مفاوضات الأهلي مع جارسيا بيمنتا    درجات الحرارة تتخطى ال40.. استمرار الموجة الحارة في البلاد والأرصاد تعلن موعد انكسارها    دعوة لتأهيل الشركات المصرية والعالمية لمشروع إدارة وتشغيل وصيانة حدائق "تلال الفسطاط"    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 10-5-2025 في محافظة قنا    حاجة الأمة إلى رجل الدولة    كيف تؤثر موجة الحر على صحة العين؟.. نصائح للوقاية    لأصحاب الخمسينات.. 3 طرق للتخلص من المشاكل المعوية    منة وهنا وأسماء وتارا.. نجمات يسيطرن على شاشة السينما المصرية    ثنائيات سينمائية تشعل شباك التذاكر في 2025    ريشة «الفلافلي» حائرة بين الراهب وآدم وحواء    الرئيس السيسي: أشكر بوتين على كرم الضيافة وأهنئ الشعب الروسي بعيد النصر    اليوم.. محاكمة 9 متهمين بخلية "ولاية داعش الدلتا"    أسعار الخضروات والأسماك اليوم السبت 10 مايو بسوق العبور للجملة    اليوم.. بدء الموجة ال 26 لإزالة التعديات على أراضي الدولة    روبيو يحث قائد الجيش الباكستاني على وقف التصعيد مع الهند    مشجع أهلاوي يمنح ثنائي البنك مكافأة خاصة بعد الفوز على بيراميدز    45 دقيقة تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. السبت 10 مايو 2025    جداول امتحانات الترم الثاني 2025 في محافظة سوهاج لجميع المراحل الدراسية    "جميعها حالات اختناق".. إصابة 11 جراء حريق قويسنا بالمنوفية (صور)    حبس لص المساكن بالخليفة    الصحة تكشف 7 فوائد للاهتمام بالحالة النفسية للأطفال    نشرة التوك شو| البترول تعلق على أزمة البنزين المغشوش.. وتفاصيل جديدة في أزمة بوسي شلبي    بعد 8 ساعات.. السيطرة على حريق شونة الكتان بشبرا ملس    شعبة الأجهزة الكهربائية: المعلومات أحد التحديات التي تواجه صغار المصنعين    مدير مدرسة السلام في واقعة الاعتداء: «الخناقة حصلت بين الناس اللي شغالين عندي وأولياء الأمور»    فاليكانو يضع بالماس على حافة الهبوط    الشعب الجمهوري بالمنيا ينظم احتفالية كبرى لتكريم الأمهات المثاليات.. صور    هل تجوز صلاة الرجل ب"الفانلة" بسبب ارتفاع الحرارة؟.. الإفتاء توضح    «زي النهارده».. وفاة الفنانة هالة فؤاد 10 مايو 1993    ملك أحمد زاهر تشارك الجمهور صورًا مع عائلتها.. وتوجه رسالة لشقيقتها ليلى    «صحة القاهرة» تكثف الاستعدادات لاعتماد وحداتها الطبية من «GAHAR»    عباسى يقود "فتاة الآرل" على أنغام السيمفونى بالأوبرا    تعرف على منافس منتخب مصر في ربع نهائي كأس أمم أفريقيا للشباب    متابعة للأداء وتوجيهات تطويرية جديدة.. النائب العام يلتقي أعضاء وموظفي نيابة استئناف المنصورة    بسبب عقب سيجارة.. نفوق 110 رأس أغنام في حريق حظيرة ومزرعة بالمنيا    أمين الفتوى: طواف الوداع سنة.. والحج صحيح دون فدية لمن تركه لعذر (فيديو)    النائب العام يلتقي أعضاء النيابة العامة وموظفيها بدائرة نيابة استئناف المنصورة    البترول: تلقينا 681 شكوى ليست جميعها مرتبطة بالبنزين.. وسنعلن النتائج بشفافية    فخري الفقي: تسهيلات ضريبية تخلق نظامًا متكاملًا يدعم الاقتصاد الرسمي ويحفز الاستثمار    جامعة القاهرة تكرّم رئيس المحكمة الدستورية العليا تقديرًا لمسيرته القضائية    «لماذا الجبن مع البطيخ؟».. «العلم» يكشف سر هذا الثنائي المدهش لعشاقه    هل يجوز الحج عن الوالدين؟ الإفتاء تُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
مصر.. أنجزت الذاكرة والكتابة

قدمت مصر للإنسانية اكتشافين مصيريين، ما كان ممكناً للوجود أن يتكامل إلا بهما، الكتابة أي الذاكرة والأسماء
منذ سنوات عثر علماء المصريات علي نصوص مصرية قديمة في منطقة أبيدوس حسمت الجدل الذي استمر طويلاً حول أسبقية اكتشاف الكتابة، مصر أم بين النهرين؟، نصوص أبيدوس أقدم مما عثر عليه في العراق بخمسمائة عام علي الأقل، الكتابة حافظة للذاكرة، هل يمكن وجود العالم بدون ذاكرة؟
الوجود الحقيقي في الذاكرة، من خلالها يمكن أن نري المستقبل، وأن نستعيد الماضي وفقاً لقوانين خفية ترتب مضمونها وتتحكم فيه، حتي الآن لا نعرف بالضبط القوانين التي تستدعي لحظة دون الأخري، تبرز ملامح لشخص غاب عنا لا نعرف اسمه، وتخفي من خُيّل إلينا أننا لن ننساهم أبداً، ما عشته يمثل في ذاكرتي، معظمه يخصني وحدي، إنها ذاكرتي الفردية التي تصيغ وتشكل ملامحي الآن، لست إلا محصلة هذه الذاكرة، نتاجها، إذا اضطربت، إذا اختلت قوانينها أصبح معلقاً في هاوية العدم فلا أمس ولا غد، لا حاضر ولا مستقبل، هذا ما عرفته في أولئك الذين قُدر لي أن أعرفهم من مرض الزهايمر، لذلك أوقن أن الحياة ذاكرة، الحياة ذكري، لذلك نحن ما نتذكره، لكن الذاكرة ليست صورة طبق الأصل، ليست خزانة لما كان، وليست إطاراً لما سيكون، إنها عملية خلق مستمرة، فالماضي يستدعي ما نرغبه، ما نريده طبقاً لظروف ما يحيط بنا، أي الحاضر، ولما كان الحاضر ليس قائماً، إنما يفلت باستمرار، هذه اللحظة الآن بمجرد أن أنطق (الآن) تصير إلي ماض، وتلك التي لم تأت بعد إذا قُدر لي ولها أن نتقابل فإنها سرعان ما ستولي، سرعان ما تصبح ذاكرة، لذلك أقول إن الآتي أيضاً ذاكرة، إن الاستعادة الدائمة لما كان تتغير مع مراحل التقدم في رحلة الحياة، وفي كل مرة يمكن أن نكوّن قصصاً عن أنفسنا من خلال ما تبقي، وهنا يمكن اعتبار الحكي هو أدق وعاء يمكن أن يصون قدرا مما كان، من الذاكرة، إذا كان كل شيء يمضي إلي مناطق معتمة فإن الحكي هو ما يحتفظ بالذاكرة، ليس بتفاصيلها، إنما جوهرها، دلالات ما مر بالإنسان من أحداث وأشواق ورؤي، أما تلك المناطق المعتمة، التي لا يمكن أن نتبين ما تحتويه، فهي ما نعرفه باسم النسيان، النسيان ذاكرة مضادة، علاقة النسيان بالذاكرة أشبه بعلاقة الفراغ بالامتلاء، فلولا فراغ الإناء ما كان ممكناً له أن يمتلئ، أو يتخذ شكله، لذلك كان العدم ضرورياً للوجود، وكان النسيان لازماً لعمل الذاكرة، لذلك أضع الذاكرة والنسيان معاً، كلاهما وجه للآخر.
وجود إنساني
ثمة حكاية قديمة هائمة في فضاء ذاكرتي، لا يمكنني الآن نسبتها إلي مصدر، تقول إنه بعد أن توصل حكيم مصري إلي اختراع الكتابة قصد الفرعون ليطلعه علي النبأ العظيم والاكتشاف المذهل، قال إنه توصل إلي وسيلة لصون ما يفني، أجاب الفرعون قائلاً إن الفعل عظيم لصون الذاكرة، غير أنه حددها، الكتابة ثم اختراع المطبعة وصولاً إلي الوسائل الرقمية محطات مهمة لصون الذاكرة، للحفاظ عليها وتأطيرها أيضاً.
لكل إنسان وجوده الخاص، أي ذاكرته الخاصة، وهذه الذاكرة الفردية تتوازي مع صاحبها، يصعب تبديل مضمونها أو تزييفه أو محو جزء منه لإحلال آخر، الذاكرة الفردية تعني الحضور، الوجود، السيرة، حتي وإن بقيت مجرد اسم متداول، لذلك كانت الذاكرة محور وجوهر الحضارة المصرية القديمة التي رفض المصريون القدماء من خلال ما أنجزوه العدم، فتخيلوا امتدادا للواقع المعاش في اللاوجود، في العدم، يخاطب الموتي الأحياء في مصر منذ آلاف السنين رغم تبدل العقيدة، يطلبون منهم أن يتذكروهم، أن ينطقوا بأسمائهم، في العقيدة المصرية القديمة الاسم أحد مكونات الوجود، بل إنه بعد الموت، أي بعد وضع حد للذاكرة الفردية، يصبح الاسم بديلاً للوجود، مجرد النطق به يعني دفقة حياة جديدة، وللاسم في الثقافة المصرية القديمة شأن عظيم، غير أن الحضارة المصرية التي أوجدت الوسائل لصون الذاكرة، قد راحت هي ضحية لتزييف الذاكرة، تزييف الذاكرة الجماعية عمل منظم يتم فيه استخدام وسائل متعددة، منها الدين وإعادة صياغة وقائع التاريخ، وهذا ما حدث بالنسبة للحضارة المصرية القديمة التي اعتبرت وثنية من وجهة نظر الديانات الثلاث المتعاقبة، وساد هذا الاعتقاد حتي بدأت عملية إنصاف وتصحيح منذ القرن السابع عشر وتزايدت بعد اكتشاف أسرار الكتابة المقدسة التي نُسيت رغم أنها كتابة الكتابة، أي الكتابة التي تم تدوين الكتابة كفعل إنساني للتذكر، مضاد للنسيان، لكن مازال هذا الإنصاف مقصورا علي المتخصصين، وفي حدود ما قرأت أشير إلي الجهود العلمية لعلماء المصريات الفرنسيين، والأستاذ جان اسمان عالم المصريات بجامعة ميونيخ وله مؤلفات مهمة في موضوع الذاكرة الحضارية، عبر الأدب عن عملية تزييف الذاكرة الجماعية أدق تعبير في (العالم سنة 1984) لجورج أورويل عندما كان يعاد إنتاج الماضي، وفي العصر الحديث يمكن القول إن كل ثقافة معاصرة تعرف هذا النوع من التزييف، ومن ناحية أخري نشهد صراعاً محوره الذاكرة، حيث تحاول ذاكرة إزاحة ذاكرة أخري والمثال علي ذلك ما يجري لأرض فلسطين وللشعب الفلسطيني، الذاكرة أحد المحاور الرئيسية للصراع العربي الإسرائيلي عامة، والفلسطيني الإسرائيلي خاصة.
عندما تتواري ذاكرة في الذاكرة المضادة أي النسيان، ربما يتم استبدالها بذاكرة وهمية، أجد مثالاً علي ذلك في التاريخ المصري، فعندما توارت الحضارة المصرية القديمة بسبب تغيير الظروف والعقائد، عنصر الاسم المترتب علي اكتشاف الكتابة ظل مستمراً وهذا تجل رئيسي في دور مصر الكوني، الإنساني.
الإسم حضور
مازلت أذكر هذه اللحظة، تمثل في ذاكرتي كأنها بالأمس القريب، مع أن ما يفصلني عنها خمسة وستون عاماً وربما أكثر، كان شقيقي الأصغر محمد رحمه الله مريضاً، حمله أبي إلي شيخ كان له شهرة في حارة الميضئة بالجمالية، بعد أن تأخر الشفاء رغم أدوية الطبيب، تفحص الشيخ أخي، ثم سأل عن اسم والديه، مال أبي ليهمس باسم والدتي، كان الاسم لازماً كي يتم عمل الحجاب، وبعد أن قرأ الشيخ التعاويذ، وملس بيده علي جبهة أخي الملتهبة، قال بصوت رصين:
«لو طلعت عليه شمس الجمعة فسينجو بإذن الله..»
وانتظرنا، كنت أتطلع إلي ملامح والدتي، وعند الفجر سكن محمد الصغير إلي الأبد، وبقيت بعض من ملامحه، وأثر عميق من تلك اللحظات التي أمضيتها في حجرة الشيخ وتساؤل لم ألق الإجابة عنه: لماذا همس الوالد بالاسمين، مع أن الغرفة لم يكن بها إلا الشيخ، وأبي نفسه وطفلاه؟
مع الزمن، وتقدم العمر، واكتشاف القراءة وسحرها العجيب، أدركت الأبعاد اللانهائية للاسم، وما أقصده الدلالات وظلالها، وليس النحو فقط.
كنت أقرأ الرواية، فإذا كان بطلها اسمه «كمال» يصير تخيله عندي مختلفاً عما لو كان اسمه «محمد»، بل أكاد أثق، أن اسمي لو كان مختلفاً لأصبحت ملامحي مغايرة، وحضوري مختلفاً.
الاسم يلخص حضور الإنسان المادي، ويحدده، يؤطره ويشير إليه، ورغم أن تراثنا الشعبي والديني والفكري يحفل بالعديد من التفاصيل حول موضوع الاسم، لكن لاتزال الدراسات الخاصة بهذا الموضوع نادرة، ومعظمها ذو طبيعة معجمية.
أذكر علي سبيل المثال موسوعة السلطان قابوس للأسماء وتعد جهداً علمياً فريداً فيما يختص بأسماء العرب ومعانيها ودلالاتها، وتتكون من ستة مجلدات، وثمة كتاب قديم لأحمد بن محمد أبي الفضل الميداني النيسابوري، حققه وقدمه الدكتور موسي هنداوي وطبع عام سبعة وستين، وعنوانه «السامي في الأسامي»، وكتاب «أسماء الناس ومعانيها« للباحث العراقي عباس كاظم مراد، ومن أطرف ما قرأت كتاب الزميل عباس الطرابيلي عن «غرائب الأسماء المصرية» وفيه جهد حقيقي وممتع ومفيد، أما المادة الموجودة عن الاسم كدلالة فتتوزع في كتب التصوف، وكتب السحر والتنجيم والرمل وهذا بحر خضم.
لكن الأصل لهذا كله موجود في الحضارة المصرية القديمة، الفكر الفرعوني هو الذي أهدي الإنسانية في فجرها البعيد فكرة الاسم، أي التمييز بين هذا وذاك، وتلخيص الحضور المادي بالمعادل المجرد، بالنطق، وشيئاً فشيئا أصبح للاسم قوة تتجاوز الوجود الإنساني المحدود، بحيث أصبح من صميم المعتقد المصري القديم أن الإنسان باق طالما أن اسمه يتردد، لهذا أقدموا علي البناء، وعلي حفر الأسماء علي الحجر، والتحايل والتوسل بكل الطرق ليبقي اسم المتوفي، ولهذا تفصيل يطول، ومستمر في حياتنا الشعبية حتي الآن، ويكفي الإشارة إلي أن معرفة الاسم تعني إمكانية القدرة علي التحكم في صاحبه، إما بالفائدة أو الضرر، مع اكتمال الأبجدية، اللغة المكتوبة، أعلي مرحلة في التطور الإنساني، قدم المصريون إلي الوجود الإنساني فكرة الاسم، ولولا الأسماء لتداخلت الحدود، ولما عُرف الفرق بين الشرق والغرب، والفوق والتحت، وزيد وعبيد، وأرض وسماء. لهذا كان المصري القديم ومازال، مسلماً أو مسيحياً، يوصي بالحفاظ علي اسمه، إما بالإقدام علي عمل الخير، أو إبداع أمر ما، أو التوسل إلي المارة عبر شاهد قبر فرعوني، أو قبطي أو إسلامي أن يذكروه بالخير، وأن يترحموا عليه، فهذا يعني أنه باق، يسعي.

الإسم وجود
الاسم وجود يتجاوز المسمي، الاسم يمكن أن يبقي بعد صاحبه، فالوجود الإنساني محدود مهما طال، لكن الاسم يمكن أن يبقي بالعمل الصالح، بالجهد، بالسيرة الطيبة، الاسم إذا بقي فإن صاحبه لم يمت، وإذا محا أحدهم اسم شخص ما فإنه يجهز عليه في الآخرة وهذا أفدح عقاب، لذلك حرص المصري القديم علي حماية اسمه المكتوب بحفره عميقاً في الحجر، بإحاطته بالتعاويذ، بإخفائه عن الأبصار.
الخرطوش لحماية اسم الملك فقط، الاسم هو الرن في المصرية القديمة، والشن هو الخرطوش الحامي للاسم، لذلك يقول المصريون حتي الآن «فلان له شنة ورنة» أي إنه يشبه الملك فلم يكن مسموحاً بكتابة اسم يحيطه خرطوش إلا للملك فقط.
الأم إذا هدد طفلها شيء، إذا سقط فوق الأرض، تسارع بالقول «اسم الله عليك وعلي الأحسن منك»، مجرد ذكر اسم الله فيه حماية، وقاية، وهذا معتقد مصري قديم، الاسم الأعظم غير معروف يشار إليه فقط، وقد انتقل الاعتقاد به إلي الفكر الصوفي، اسم الله الأعظم خفي، مجهول أبداً، لو اطلع عليه أحد يتحكم في الوجود كله.
اسم الأم له مرتبة تعلو اسم الأب، في العصور الأولي كان الأطفال ينسبون إلي أمهاتهم، ويوم القيامة ينادي الناس بأسماء أمهاتهم، وفي أعمال السحر يكون اسم الأم مفتاحاً للسيطرة، الاسم حضور دائم، الاسم وجود دائم، ولولا الاسم لتشابهت العناصر، والملامح، وفي التنزيل العزيز قال سبحانه وتعالي: وعلم آدم الأسماء كلها..
الاسم مرادف للوجود، مواز له، بل إنه يتجاوزه، ذلك أن الإنسان مهما طال عمره يفني، يرحل، ولكن اسمه يمكن أن يبقي، من خلال الذرية، أو الأثر، أو العمل الصالح.
التطلع إلي الخلود، إلي البقاء غريزة إنسانية، إنه الفعل المضاد للعدم، لتلك القوة الأزلية التي تطوي باستمرار، والحروف بناء من الفراغ، من الهواء الذي نستنشقه، من اللحظات التي تطوينا، من الزمن المنقضي والآتي، لهذا كانت الكلمات رموزاً دالة علي الوجود، أما الكتابة فلتثبيت هذا الوجود، والانتقال به من وقت إلي وقت.
هذا ما قدمه المصريون القدماء إلي الإنسانية في ذلك الزمن سحيق البعد، ولكي نتخيل المسافة، فإن ما يفصل الملك مينا موحد القطرين عن بدء التقويم الميلادي الذي سندخل ألفيته السادسة نهاية العام القادم يبلغ ضعفي المسافة الزمنية التي تفصلنا عن بداية هذا التقويم.
في هذا الفجر البعيد للإنسانية أدرك المصريون مغزي الاسم ومعناه ودلالته، وفي أسورة إيزيس التي صيغت من وجدان وادي النيل موقف شهير أثناء احتضار جلالة الملك رع قبل أن يندمج بالأبدية كإله، كان له أسماء كثيرة، عديدة، أحدها خفي مجهول، وفي هذا الاسم المجهول تكمن أسرار قوته، وحاولت إيزيس الجميلة، أن تدبر حيلة لتعرف الاسم الخفي، وتسجل لنا إحدي القصص التي وصلتنا مكتوبة بالهيلوغريفية تفاصيل هذا الحوار الشيق، بين إيزيس والإله رع، والحوار موجود في كتاب «نصوص الشرق الأدني القديمة» الذي ترجمه د. عبدالحميد زايد، وصدر في مشروع المائة كتاب الذي أصدره المرحوم الدكتور أحمد قدري.
تقول إيزيس للإله رع:
«اكشف لي عن اسمك يا والدي المقدس لأن الشخص يحيا بذلك..»
ثم تقول له:
«إذا كشفت لي عنه سوف يخرج السم، لأن الشخص الذي يُذكر اسمه يحيا»
ولكن الإله رع يصمت رغم سريان سم الأفعي في جسده، يحدث بالاحتراق احتراق ثم ينطق قائلاً، محدثاً:
«لا بأس أن تنصتي إليّ ابنتي إيزيس، لكي يتمكن اسمي المجيء من جسمي إلي جسمك، إن أعظم الكهنة بين الآلهة أخفاه حتي يصبح مكاني واسعاً في قارب ملايين السنين»
ويموت رع ولا ينطق باسمه، يظل اسمه خفياً، مجهولاً، وتنتقل قوة الاسم من فترة إلي أخري في الزمن المصري القديم، يحرص المصري علي نقش اسمه فوق الحجر، ويخفيه، لأنه يعتقد أن استمراره ووجوده مرتبط باسمه، فإذا مُحي اسمه انتهي وجوده، وكان المصري إذا أراد الانتقام من مصري آخر عمد إلي طمس اسمه فوق مقبرته أو تشويه ملامح رسمه، تماماً كما تفعل الأمهات الآن وهن يصنعن عروسة من الورق، ويثقبنها بالإبرة، ويرددن: «في عين أم فلانه..» لإبطال الحسد وهذا أحد أشكال استمرارية الثقافة المصرية بالمعني الشامل، العميق.
وفي الريف والأحياء الشعبية وحتي في المستويات المختلفة للمجتمع، يعمد البعض لإعداد «سحر» أو «عمل» بهدف استمالة شخص آخر أو إيذائه، وفي كل الأحوال، لابد من معرفة الاسم، اسم الشخص المستهدف طبعاً ولكن الأهم اسم الأم، واسم الأم تحديداً.
الغريب أن فكرة إخفاء الاسم ماتزال تستقر داخلنا كمصريين، وأذكر أنني كنت أكتب استمارة للحصول علي تأشيرة أجنبية من إحدي السفارات، وفوجئت بسطر مطلوب فيه أن أكتب اسم والدتي رحمها الله واستنكرت ذلك كجنوبي مصري صميم، وأبيت التصريح باسمها رحمها الله رحمة واسعة ومازال في المجتمع المصري النداء علي الزوجات والأمهات يتم بأسماء أولادهن «يا أم فلان».
ذلك أن الاسم يستحسن ألا يعرف، وأفضل الأفضل أن يبقي، وعند الصوفية توجد فكرة اسم الله الأعظم، من يعرفه يمكنه التحكم في الكون، ويُقال إن سيدي ذو النون رضي الله عنه عرف الاسم الأعظم، ومما يروي عنه أن شخصاً جاءه يوماً وطلب منه أن يطلعه علي الاسم الأعظم، فأعطاه ذو النون طبقاً مغطي، وطلب منه أن يوصله إلي جاره أولاً وأن يعود إليه فيما بعد، خرج الرجل وفي الطريق بدا فضوله، تري.. ماذا في الطبق؟ لابد أن سيدي ذو النون يخفي أمراً، غلبه فضوله ورفع الغطاء فوجد فأراً ميتاً.
عاد إلي سيدي ذو النون عاتباً، غاضباً:
«هل تعطيني فأراً ميتاً لأنقله؟»
فقال سيدي ذو النون:
«إذا كنت لم تصبر علي معرفة فأر ميت، فهل تريد أن أكشف لك عن الاسم الأعظم؟»
هكذا.. عظمة الاسم الخفي وقوته في خفائه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.