متحدث «الشباب والرياضة»: سلوك معلم الجيولوجيا مخالف لتوجه وزارة التربية التعليم    تضامن الدقهلية تختتم المرحلة الثانية لتدريب "مودة" للشباب المقبلين على الزواج    سهرة خاصة مع عمر خيرت في «احتفالية المصري اليوم» بمناسبة الذكرى العشرين    "فضل يوم عرفة" أمسية دينية بأوقاف مطروح    «تضامن الدقهلية» تستعد لعيد الأضحى المبارك ب«55 رأس ماشية»    محافظ الغربية يتابع أعمال تأهيل ورصف طريق كفور بلشاي    نصائح يجب اتباعها مع الجزار قبل ذبح الأضحية    التضامن توضح حقيقة صرف معاش تكافل وكرامة قبل عيد الأضحى 2024    أستاذ علوم سياسية: زيارات بلينكن للمنطقة يعقبها تصعيد إسرائيلي في غزة    دبلوماسي روسي: تفاقم الوضع في شبه الجزيرة الكورية بسبب واشنطن    وزير خارجية الأردن يشدد على ضرورة الوقف الفوري للحرب على غزة    حقيقة رفض محمد صلاح تعليمات حسام حسن بالاستبدال أمام غينيا بيساو | عاجل    وزير الرياضة: تأجير صالة حسن مصطفى للدروس الخصوصية مخالفة واضحة للائحة والقانون    «الأرصاد» تكشف سبب ارتفاع درجات الحرارة بداية من الغد.. الذروة تستمر 3 أيام    Apple Intelligence .. كل ما تحتاج معرفته عن ذكاء أبل الاصطناعي الجديد    افتتاح مدرسة ماونتن فيو الدولية للتكنولوجيا التطبيقية "IATS"    خالد النبوي يشوق جمهوره ويروج لفيلم "أهل الكهف"    محمد لطفي يروج لشخصية الشربيني في فيلم ولاد رزق 3    غدا.. "ليتنا لا ننسى" على مسرح مركز الإبداع الفني    «الإفتاء» توضح حكم صيام اليوم العاشر من ذي الحجة    الأفضل للأضحية الغنم أم الإبل..الإفتاء المصرية تحسم الجدل    وزير الصحة: برنامج الزمالة المصرية يقوم بتخريج 3 آلاف طبيب سنويا    تفاصيل قافلة لجامعة القاهرة في الصف تقدم العلاج والخدمات الطبية مجانا    تزامنا مع احتفالات الكنيسة، قصة القديسة مرثا المصرية الناسكة    الإفتاء: النبي لم يصم العشر من ذي الحجة ولم يدع لصيامها    قيادى بفتح: الرئيس محمود عباس يتمتع بصحة جيدة وسيشارك غدا فى مؤتمر البحر الميت    وزير التجارة ونظيره التركي يبحثان سبل تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين    لفقدان الوزن- تناول الليمون بهذه الطرق    ميدفيديف يطالب شولتس وماكرون بالاستقالة بعد نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي    لميس الحديدي تكشف عن سبب إخفائها خبر إصابتها بالسرطان    محمد ممدوح يروج لدوره في فيلم ولاد رزق 3    أمين الفتوى: الخروف أو سبع العجل يجزئ عن البيت كله في الأضحية    تكريم أحمد رزق بمهرجان همسة للآداب والفنون    مشروب بسيط يخلصك من الصداع والدوخة أثناء الحر.. جسمك هيرجع لطبيعته في دقايق    رشا كمال عن حكم صلاة المرأة العيد بالمساجد والساحات: يجوز والأولى بالمنزل    موعد محاكمة ميكانيكي متهم بقتل ابن لاعب سابق شهير بالزمالك    «المصريين الأحرار» يُشارك احتفالات الكنيسة بعيد الأنبا أبرآم بحضور البابا تواضروس    جامعة أسيوط تطلق فعاليات ندوة "الهجرة غير الشرعية: أضرارها وأساليب مكافحتها"    مصر تتربع على عرش جدول ميداليات البطولة الأفريقية للسلاح للكبار    الرئيس الأوكراني يكشف حقيقة استيلاء روسيا على بلدة ريجيفكا    غدًا.. ولي عهد الكويت يتوجه إلى السعودية في زيارة رسمية    المرصد المصري للصحافة والإعلام يُطلق حملة تدوين في "يوم الصحفي المصري"    سفر آخر أفواج حُجاج النقابة العامة للمهندسين    ليونيل ميسي يشارك في فوز الأرجنتين على الإكوادور    "بايونيرز للتنمية" تحقق أرباح 1.17 مليار جنيه خلال الربع الأول من العام    "محدش يتخض".. شوبير يكشف مفاجأة كولر للأهلي في الصيف    مستشفيات جامعة أسوان يعلن خطة الاستعداد لاستقبال عيد الأضحى    مفاجأة مثيرة في تحقيقات سفاح التجمع: مصدر ثقة وينظم حفلات مدرسية    تشكيل الحكومة الجديد.. 4 نواب في الوزارة الجديدة    أفيجدرو لبيرمان يرفض الانضمام إلى حكومة نتنياهو    مطلب برلماني بإعداد قانون خاص ينظم آليات استخدام الذكاء الاصطناعي    ضياء رشوان: لولا دور الإعلام في تغطية القضية الفلسطينية لسحقنا    صندوق مكافحة الإدمان يستعرض نتائج أكبر برنامج لحماية طلاب المدارس من المخدرات    رئيس منظمة مكافحة المنشطات: رمضان صبحي مهدد بالإيقاف لأربع سنوات حال إثبات مخالفته للقواعد    الدرندلي: أي مباراة للمنتخب الفترة المقبلة ستكون مهمة.. وتحفيز حسام حسن قبل مواجهة غينيا بيساو    جالانت يتجاهل جانتس بعد استقالته من الحكومة.. ما رأي نتنياهو؟    حالة الطقس المتوقعة غدًا الثلاثاء 11 يونيو 2024| إنفوجراف    عمر جابر يكشف كواليس حديثه مع لاعبي الزمالك قبل نهائي الكونفدرالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
مصر.. أنجزت الذاكرة والكتابة

قدمت مصر للإنسانية اكتشافين مصيريين، ما كان ممكناً للوجود أن يتكامل إلا بهما، الكتابة أي الذاكرة والأسماء
منذ سنوات عثر علماء المصريات علي نصوص مصرية قديمة في منطقة أبيدوس حسمت الجدل الذي استمر طويلاً حول أسبقية اكتشاف الكتابة، مصر أم بين النهرين؟، نصوص أبيدوس أقدم مما عثر عليه في العراق بخمسمائة عام علي الأقل، الكتابة حافظة للذاكرة، هل يمكن وجود العالم بدون ذاكرة؟
الوجود الحقيقي في الذاكرة، من خلالها يمكن أن نري المستقبل، وأن نستعيد الماضي وفقاً لقوانين خفية ترتب مضمونها وتتحكم فيه، حتي الآن لا نعرف بالضبط القوانين التي تستدعي لحظة دون الأخري، تبرز ملامح لشخص غاب عنا لا نعرف اسمه، وتخفي من خُيّل إلينا أننا لن ننساهم أبداً، ما عشته يمثل في ذاكرتي، معظمه يخصني وحدي، إنها ذاكرتي الفردية التي تصيغ وتشكل ملامحي الآن، لست إلا محصلة هذه الذاكرة، نتاجها، إذا اضطربت، إذا اختلت قوانينها أصبح معلقاً في هاوية العدم فلا أمس ولا غد، لا حاضر ولا مستقبل، هذا ما عرفته في أولئك الذين قُدر لي أن أعرفهم من مرض الزهايمر، لذلك أوقن أن الحياة ذاكرة، الحياة ذكري، لذلك نحن ما نتذكره، لكن الذاكرة ليست صورة طبق الأصل، ليست خزانة لما كان، وليست إطاراً لما سيكون، إنها عملية خلق مستمرة، فالماضي يستدعي ما نرغبه، ما نريده طبقاً لظروف ما يحيط بنا، أي الحاضر، ولما كان الحاضر ليس قائماً، إنما يفلت باستمرار، هذه اللحظة الآن بمجرد أن أنطق (الآن) تصير إلي ماض، وتلك التي لم تأت بعد إذا قُدر لي ولها أن نتقابل فإنها سرعان ما ستولي، سرعان ما تصبح ذاكرة، لذلك أقول إن الآتي أيضاً ذاكرة، إن الاستعادة الدائمة لما كان تتغير مع مراحل التقدم في رحلة الحياة، وفي كل مرة يمكن أن نكوّن قصصاً عن أنفسنا من خلال ما تبقي، وهنا يمكن اعتبار الحكي هو أدق وعاء يمكن أن يصون قدرا مما كان، من الذاكرة، إذا كان كل شيء يمضي إلي مناطق معتمة فإن الحكي هو ما يحتفظ بالذاكرة، ليس بتفاصيلها، إنما جوهرها، دلالات ما مر بالإنسان من أحداث وأشواق ورؤي، أما تلك المناطق المعتمة، التي لا يمكن أن نتبين ما تحتويه، فهي ما نعرفه باسم النسيان، النسيان ذاكرة مضادة، علاقة النسيان بالذاكرة أشبه بعلاقة الفراغ بالامتلاء، فلولا فراغ الإناء ما كان ممكناً له أن يمتلئ، أو يتخذ شكله، لذلك كان العدم ضرورياً للوجود، وكان النسيان لازماً لعمل الذاكرة، لذلك أضع الذاكرة والنسيان معاً، كلاهما وجه للآخر.
وجود إنساني
ثمة حكاية قديمة هائمة في فضاء ذاكرتي، لا يمكنني الآن نسبتها إلي مصدر، تقول إنه بعد أن توصل حكيم مصري إلي اختراع الكتابة قصد الفرعون ليطلعه علي النبأ العظيم والاكتشاف المذهل، قال إنه توصل إلي وسيلة لصون ما يفني، أجاب الفرعون قائلاً إن الفعل عظيم لصون الذاكرة، غير أنه حددها، الكتابة ثم اختراع المطبعة وصولاً إلي الوسائل الرقمية محطات مهمة لصون الذاكرة، للحفاظ عليها وتأطيرها أيضاً.
لكل إنسان وجوده الخاص، أي ذاكرته الخاصة، وهذه الذاكرة الفردية تتوازي مع صاحبها، يصعب تبديل مضمونها أو تزييفه أو محو جزء منه لإحلال آخر، الذاكرة الفردية تعني الحضور، الوجود، السيرة، حتي وإن بقيت مجرد اسم متداول، لذلك كانت الذاكرة محور وجوهر الحضارة المصرية القديمة التي رفض المصريون القدماء من خلال ما أنجزوه العدم، فتخيلوا امتدادا للواقع المعاش في اللاوجود، في العدم، يخاطب الموتي الأحياء في مصر منذ آلاف السنين رغم تبدل العقيدة، يطلبون منهم أن يتذكروهم، أن ينطقوا بأسمائهم، في العقيدة المصرية القديمة الاسم أحد مكونات الوجود، بل إنه بعد الموت، أي بعد وضع حد للذاكرة الفردية، يصبح الاسم بديلاً للوجود، مجرد النطق به يعني دفقة حياة جديدة، وللاسم في الثقافة المصرية القديمة شأن عظيم، غير أن الحضارة المصرية التي أوجدت الوسائل لصون الذاكرة، قد راحت هي ضحية لتزييف الذاكرة، تزييف الذاكرة الجماعية عمل منظم يتم فيه استخدام وسائل متعددة، منها الدين وإعادة صياغة وقائع التاريخ، وهذا ما حدث بالنسبة للحضارة المصرية القديمة التي اعتبرت وثنية من وجهة نظر الديانات الثلاث المتعاقبة، وساد هذا الاعتقاد حتي بدأت عملية إنصاف وتصحيح منذ القرن السابع عشر وتزايدت بعد اكتشاف أسرار الكتابة المقدسة التي نُسيت رغم أنها كتابة الكتابة، أي الكتابة التي تم تدوين الكتابة كفعل إنساني للتذكر، مضاد للنسيان، لكن مازال هذا الإنصاف مقصورا علي المتخصصين، وفي حدود ما قرأت أشير إلي الجهود العلمية لعلماء المصريات الفرنسيين، والأستاذ جان اسمان عالم المصريات بجامعة ميونيخ وله مؤلفات مهمة في موضوع الذاكرة الحضارية، عبر الأدب عن عملية تزييف الذاكرة الجماعية أدق تعبير في (العالم سنة 1984) لجورج أورويل عندما كان يعاد إنتاج الماضي، وفي العصر الحديث يمكن القول إن كل ثقافة معاصرة تعرف هذا النوع من التزييف، ومن ناحية أخري نشهد صراعاً محوره الذاكرة، حيث تحاول ذاكرة إزاحة ذاكرة أخري والمثال علي ذلك ما يجري لأرض فلسطين وللشعب الفلسطيني، الذاكرة أحد المحاور الرئيسية للصراع العربي الإسرائيلي عامة، والفلسطيني الإسرائيلي خاصة.
عندما تتواري ذاكرة في الذاكرة المضادة أي النسيان، ربما يتم استبدالها بذاكرة وهمية، أجد مثالاً علي ذلك في التاريخ المصري، فعندما توارت الحضارة المصرية القديمة بسبب تغيير الظروف والعقائد، عنصر الاسم المترتب علي اكتشاف الكتابة ظل مستمراً وهذا تجل رئيسي في دور مصر الكوني، الإنساني.
الإسم حضور
مازلت أذكر هذه اللحظة، تمثل في ذاكرتي كأنها بالأمس القريب، مع أن ما يفصلني عنها خمسة وستون عاماً وربما أكثر، كان شقيقي الأصغر محمد رحمه الله مريضاً، حمله أبي إلي شيخ كان له شهرة في حارة الميضئة بالجمالية، بعد أن تأخر الشفاء رغم أدوية الطبيب، تفحص الشيخ أخي، ثم سأل عن اسم والديه، مال أبي ليهمس باسم والدتي، كان الاسم لازماً كي يتم عمل الحجاب، وبعد أن قرأ الشيخ التعاويذ، وملس بيده علي جبهة أخي الملتهبة، قال بصوت رصين:
«لو طلعت عليه شمس الجمعة فسينجو بإذن الله..»
وانتظرنا، كنت أتطلع إلي ملامح والدتي، وعند الفجر سكن محمد الصغير إلي الأبد، وبقيت بعض من ملامحه، وأثر عميق من تلك اللحظات التي أمضيتها في حجرة الشيخ وتساؤل لم ألق الإجابة عنه: لماذا همس الوالد بالاسمين، مع أن الغرفة لم يكن بها إلا الشيخ، وأبي نفسه وطفلاه؟
مع الزمن، وتقدم العمر، واكتشاف القراءة وسحرها العجيب، أدركت الأبعاد اللانهائية للاسم، وما أقصده الدلالات وظلالها، وليس النحو فقط.
كنت أقرأ الرواية، فإذا كان بطلها اسمه «كمال» يصير تخيله عندي مختلفاً عما لو كان اسمه «محمد»، بل أكاد أثق، أن اسمي لو كان مختلفاً لأصبحت ملامحي مغايرة، وحضوري مختلفاً.
الاسم يلخص حضور الإنسان المادي، ويحدده، يؤطره ويشير إليه، ورغم أن تراثنا الشعبي والديني والفكري يحفل بالعديد من التفاصيل حول موضوع الاسم، لكن لاتزال الدراسات الخاصة بهذا الموضوع نادرة، ومعظمها ذو طبيعة معجمية.
أذكر علي سبيل المثال موسوعة السلطان قابوس للأسماء وتعد جهداً علمياً فريداً فيما يختص بأسماء العرب ومعانيها ودلالاتها، وتتكون من ستة مجلدات، وثمة كتاب قديم لأحمد بن محمد أبي الفضل الميداني النيسابوري، حققه وقدمه الدكتور موسي هنداوي وطبع عام سبعة وستين، وعنوانه «السامي في الأسامي»، وكتاب «أسماء الناس ومعانيها« للباحث العراقي عباس كاظم مراد، ومن أطرف ما قرأت كتاب الزميل عباس الطرابيلي عن «غرائب الأسماء المصرية» وفيه جهد حقيقي وممتع ومفيد، أما المادة الموجودة عن الاسم كدلالة فتتوزع في كتب التصوف، وكتب السحر والتنجيم والرمل وهذا بحر خضم.
لكن الأصل لهذا كله موجود في الحضارة المصرية القديمة، الفكر الفرعوني هو الذي أهدي الإنسانية في فجرها البعيد فكرة الاسم، أي التمييز بين هذا وذاك، وتلخيص الحضور المادي بالمعادل المجرد، بالنطق، وشيئاً فشيئا أصبح للاسم قوة تتجاوز الوجود الإنساني المحدود، بحيث أصبح من صميم المعتقد المصري القديم أن الإنسان باق طالما أن اسمه يتردد، لهذا أقدموا علي البناء، وعلي حفر الأسماء علي الحجر، والتحايل والتوسل بكل الطرق ليبقي اسم المتوفي، ولهذا تفصيل يطول، ومستمر في حياتنا الشعبية حتي الآن، ويكفي الإشارة إلي أن معرفة الاسم تعني إمكانية القدرة علي التحكم في صاحبه، إما بالفائدة أو الضرر، مع اكتمال الأبجدية، اللغة المكتوبة، أعلي مرحلة في التطور الإنساني، قدم المصريون إلي الوجود الإنساني فكرة الاسم، ولولا الأسماء لتداخلت الحدود، ولما عُرف الفرق بين الشرق والغرب، والفوق والتحت، وزيد وعبيد، وأرض وسماء. لهذا كان المصري القديم ومازال، مسلماً أو مسيحياً، يوصي بالحفاظ علي اسمه، إما بالإقدام علي عمل الخير، أو إبداع أمر ما، أو التوسل إلي المارة عبر شاهد قبر فرعوني، أو قبطي أو إسلامي أن يذكروه بالخير، وأن يترحموا عليه، فهذا يعني أنه باق، يسعي.

الإسم وجود
الاسم وجود يتجاوز المسمي، الاسم يمكن أن يبقي بعد صاحبه، فالوجود الإنساني محدود مهما طال، لكن الاسم يمكن أن يبقي بالعمل الصالح، بالجهد، بالسيرة الطيبة، الاسم إذا بقي فإن صاحبه لم يمت، وإذا محا أحدهم اسم شخص ما فإنه يجهز عليه في الآخرة وهذا أفدح عقاب، لذلك حرص المصري القديم علي حماية اسمه المكتوب بحفره عميقاً في الحجر، بإحاطته بالتعاويذ، بإخفائه عن الأبصار.
الخرطوش لحماية اسم الملك فقط، الاسم هو الرن في المصرية القديمة، والشن هو الخرطوش الحامي للاسم، لذلك يقول المصريون حتي الآن «فلان له شنة ورنة» أي إنه يشبه الملك فلم يكن مسموحاً بكتابة اسم يحيطه خرطوش إلا للملك فقط.
الأم إذا هدد طفلها شيء، إذا سقط فوق الأرض، تسارع بالقول «اسم الله عليك وعلي الأحسن منك»، مجرد ذكر اسم الله فيه حماية، وقاية، وهذا معتقد مصري قديم، الاسم الأعظم غير معروف يشار إليه فقط، وقد انتقل الاعتقاد به إلي الفكر الصوفي، اسم الله الأعظم خفي، مجهول أبداً، لو اطلع عليه أحد يتحكم في الوجود كله.
اسم الأم له مرتبة تعلو اسم الأب، في العصور الأولي كان الأطفال ينسبون إلي أمهاتهم، ويوم القيامة ينادي الناس بأسماء أمهاتهم، وفي أعمال السحر يكون اسم الأم مفتاحاً للسيطرة، الاسم حضور دائم، الاسم وجود دائم، ولولا الاسم لتشابهت العناصر، والملامح، وفي التنزيل العزيز قال سبحانه وتعالي: وعلم آدم الأسماء كلها..
الاسم مرادف للوجود، مواز له، بل إنه يتجاوزه، ذلك أن الإنسان مهما طال عمره يفني، يرحل، ولكن اسمه يمكن أن يبقي، من خلال الذرية، أو الأثر، أو العمل الصالح.
التطلع إلي الخلود، إلي البقاء غريزة إنسانية، إنه الفعل المضاد للعدم، لتلك القوة الأزلية التي تطوي باستمرار، والحروف بناء من الفراغ، من الهواء الذي نستنشقه، من اللحظات التي تطوينا، من الزمن المنقضي والآتي، لهذا كانت الكلمات رموزاً دالة علي الوجود، أما الكتابة فلتثبيت هذا الوجود، والانتقال به من وقت إلي وقت.
هذا ما قدمه المصريون القدماء إلي الإنسانية في ذلك الزمن سحيق البعد، ولكي نتخيل المسافة، فإن ما يفصل الملك مينا موحد القطرين عن بدء التقويم الميلادي الذي سندخل ألفيته السادسة نهاية العام القادم يبلغ ضعفي المسافة الزمنية التي تفصلنا عن بداية هذا التقويم.
في هذا الفجر البعيد للإنسانية أدرك المصريون مغزي الاسم ومعناه ودلالته، وفي أسورة إيزيس التي صيغت من وجدان وادي النيل موقف شهير أثناء احتضار جلالة الملك رع قبل أن يندمج بالأبدية كإله، كان له أسماء كثيرة، عديدة، أحدها خفي مجهول، وفي هذا الاسم المجهول تكمن أسرار قوته، وحاولت إيزيس الجميلة، أن تدبر حيلة لتعرف الاسم الخفي، وتسجل لنا إحدي القصص التي وصلتنا مكتوبة بالهيلوغريفية تفاصيل هذا الحوار الشيق، بين إيزيس والإله رع، والحوار موجود في كتاب «نصوص الشرق الأدني القديمة» الذي ترجمه د. عبدالحميد زايد، وصدر في مشروع المائة كتاب الذي أصدره المرحوم الدكتور أحمد قدري.
تقول إيزيس للإله رع:
«اكشف لي عن اسمك يا والدي المقدس لأن الشخص يحيا بذلك..»
ثم تقول له:
«إذا كشفت لي عنه سوف يخرج السم، لأن الشخص الذي يُذكر اسمه يحيا»
ولكن الإله رع يصمت رغم سريان سم الأفعي في جسده، يحدث بالاحتراق احتراق ثم ينطق قائلاً، محدثاً:
«لا بأس أن تنصتي إليّ ابنتي إيزيس، لكي يتمكن اسمي المجيء من جسمي إلي جسمك، إن أعظم الكهنة بين الآلهة أخفاه حتي يصبح مكاني واسعاً في قارب ملايين السنين»
ويموت رع ولا ينطق باسمه، يظل اسمه خفياً، مجهولاً، وتنتقل قوة الاسم من فترة إلي أخري في الزمن المصري القديم، يحرص المصري علي نقش اسمه فوق الحجر، ويخفيه، لأنه يعتقد أن استمراره ووجوده مرتبط باسمه، فإذا مُحي اسمه انتهي وجوده، وكان المصري إذا أراد الانتقام من مصري آخر عمد إلي طمس اسمه فوق مقبرته أو تشويه ملامح رسمه، تماماً كما تفعل الأمهات الآن وهن يصنعن عروسة من الورق، ويثقبنها بالإبرة، ويرددن: «في عين أم فلانه..» لإبطال الحسد وهذا أحد أشكال استمرارية الثقافة المصرية بالمعني الشامل، العميق.
وفي الريف والأحياء الشعبية وحتي في المستويات المختلفة للمجتمع، يعمد البعض لإعداد «سحر» أو «عمل» بهدف استمالة شخص آخر أو إيذائه، وفي كل الأحوال، لابد من معرفة الاسم، اسم الشخص المستهدف طبعاً ولكن الأهم اسم الأم، واسم الأم تحديداً.
الغريب أن فكرة إخفاء الاسم ماتزال تستقر داخلنا كمصريين، وأذكر أنني كنت أكتب استمارة للحصول علي تأشيرة أجنبية من إحدي السفارات، وفوجئت بسطر مطلوب فيه أن أكتب اسم والدتي رحمها الله واستنكرت ذلك كجنوبي مصري صميم، وأبيت التصريح باسمها رحمها الله رحمة واسعة ومازال في المجتمع المصري النداء علي الزوجات والأمهات يتم بأسماء أولادهن «يا أم فلان».
ذلك أن الاسم يستحسن ألا يعرف، وأفضل الأفضل أن يبقي، وعند الصوفية توجد فكرة اسم الله الأعظم، من يعرفه يمكنه التحكم في الكون، ويُقال إن سيدي ذو النون رضي الله عنه عرف الاسم الأعظم، ومما يروي عنه أن شخصاً جاءه يوماً وطلب منه أن يطلعه علي الاسم الأعظم، فأعطاه ذو النون طبقاً مغطي، وطلب منه أن يوصله إلي جاره أولاً وأن يعود إليه فيما بعد، خرج الرجل وفي الطريق بدا فضوله، تري.. ماذا في الطبق؟ لابد أن سيدي ذو النون يخفي أمراً، غلبه فضوله ورفع الغطاء فوجد فأراً ميتاً.
عاد إلي سيدي ذو النون عاتباً، غاضباً:
«هل تعطيني فأراً ميتاً لأنقله؟»
فقال سيدي ذو النون:
«إذا كنت لم تصبر علي معرفة فأر ميت، فهل تريد أن أكشف لك عن الاسم الأعظم؟»
هكذا.. عظمة الاسم الخفي وقوته في خفائه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.