يظل تحديد الموقع الأنسب ودراساته الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والأمنية وراء توازن العاصمة بين أقاليم الدولة، وقد تلاقت من الانتخاب الطبيعي والبشري في موضع القاهرة الحالي الدوافع الجغرافية والاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية، منذ أكثر من ألف عام مضت، وليست معضلة القاهرة في موقعها داخل المعمور ووسط العمران ولكن في مركزية السياسات الحكومية وغياب العدالة في توزيع الثروة بين المحافظات وعدم نقل الصلاحيات المكملة لمحافظيها، وكذلك عدم تفعيل المخطط العام للتنمية العمرانية لإقليم القاهرة الكبري الذي أعدته الهيئة العامة للتخطيط العمراني بخبرة فرنسية منذ أكثر من ثلاثين سنة. وأثيرت قبل ذلك فكرة نقل العاصمة إلي موقع في شمالي الصحراء الغربية والتي ناهضها الدكتور «جمال حمدان»لتظل القاهرة «العاصمة السياسية» للبلاد مع ضرورة إعادة تخطيط وتعزيز عواصم التوازن وأقطاب التنمية الإقليمية للتخفف من جاذبية وهيمنة القاهرة لأن العواصم الجديدة تعاني من صعوبات خانقة ومشكلات كبري. وتعد العاصمة الإدارية الجديدة النسخة المعدلة من «مدينة السادات» والتي توافرت لها استثمارات المطورالعقاري الإماراتي مع استشاري أمريكي بمؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي. وتحتاج المشروعات الكبري لعناية في التخطيط، كمقترح ممر التنمية للدكتور الباز الذي أيدت فكرته الصور الفضائية عن بعد، وذلك للخروج من الوادي والدلتا إلي الصحراء الغربية وجذب الزيادة السكانية المتوقعة، وقد عقدت الجمعية الجغرافية المصرية بالاشتراك مع الجيولوجيين والمخططين ندوة حذرت فيها من التنفيذ دون دراسة تفصيلية معتمدة للمشروع.وقد ألزم برنامج الأممالمتحدة للبيئة بعمل «التقييم البيئي المتكامل» لتحليل وتقصي مختلف الجوانب لتداخلات المجتمع مع بيئته، وتشمل تطبيق حكمة الخبراء علي المعارف الراهنة لتوفير أجوبة بمصداقية علمية حول التساؤلات المطروحة وبدرجة عالية من الثقة. وحسب الفكرة المعلنة ستصبح العاصمة الجديدة مركزاً للأموال والأعمال والإدارة ونقطة أمامية للقاهرة مع إقليم قناة السويس في التنمية، ولكن تم نسيان إسقاطات الزيادة السكانية والسقف السكاني لها ومدي تخفيفه من التكدس داخل مدينة القاهرة، وإهمال معامل قرب المسافة الذي يجعلها مدينة تابعة وغير مستقلة عن العاصمةالقديمة، فتضيف تجربة جديدة إلي التجمعات العمرانية في نطاقها والتي لم تحقق سيناريو التنمية الحضرية السريعة وما يتلازم معه من استيعاب الحجم السكاني المتوقع، وكذلك الأعباء اللوجستية علي شبكات الطرق والمرافق، وعلاقة تنمية المدينة الجديدة بتدهور الأوضاع في المدينة القديمة. وعقب إعلان الحكومة بدء المشروع، اعتلت هذه الموجة بعض المناطق والتجمعات العمرانية المجاورة في برامجها الدعائية بقربها من العاصمة الجديدة بنحو خمس دقائق، وكشفت عن زيادة متوقعة في أسعاروحداتها السكنية، وذلك في إطار عمليات المضاربة علي الأراضي والعقارات بامتداد النمو العمراني شرقي القاهرة،والتسويق بين الفئات المستهدفة من الصفوة والطبقات المقتدرة، وما يترتب علي ذلك من تفاقم أزمة الإسكان لفئة الشباب في سن الزواج في ظل عدم وجود مناطق للإسكان الاجتماعي الموجه لفئات المجتمع الأكثر احتياجاً، والتي لا تدخل ضمن أولويات مشروع عاصمة المستقبل للاستثمار العقاري. لا بأس في إنشاء مدينة ذكية خضراء علي غرار دبي وفيها أعلي برج في أفريقيا، ولكن تبقي القاهرة السياسية في محلها الجغرافي بقانون خاص يحافظ عليها من التدهور ويطورها بالأسس والمعايير البيئية لتعظيم وظائفها كعاصمة تاريخية للبلاد،وذلك بإعادة التنظيم المكاني واستخدام الأرض، ومنها نقل وتهجير مختلف الصناعات الملوثة للبيئة في كل من منطقتي حلوان وشبرا الخيمة، ونقل المقابر لتصبح أماكنها حدائق مفتوحة تتخللها مراكز لتسويق منتجات الصناعات التقليدية والتراثية والحرف اليدوية، ونقل وتطويرالمناطق العشوائية، الأمر الذي يتطلب نظرالدولة بعين الاعتبار للإبقاء علي القاهرة جوهرة الشرق.