واستغل ضعاف النفوس من بيننا ومن خارجنا هذه الحالة المتفاقمة فزادونا رهقا، وأوقعوا خلالنا الشقة واثخنوا فينا الجراح، معارك في الداخل ومعارك علي الحدود استطيع الآن أن اكتب متفائلا عن الغد الآتي، ولا أبالغ إن قلت إننا نخرج من مذلة الحاجة والاستجداء إلي رحابة الكرامة والبناء، فالعمل وإن كان هينا ولكنه متصل برفع شأن صاحبه لا محالة ويضعه في مكانة الاحترام والتقدير من الآخرين ولو كانوا أعداءه، هكذا تضع مصر أقدامها من جديد علي الطريق الصحيح وإن بدا صعبا وشاقا وطويلا مشواره، فلقد سئم الناس الوهم وضيق الحياة اثرياءها وفقراءها، وكان لابد من وقفة مع المرض العضال الذي أصاب بلادنا علي مدي أعوام من التخبط والضلال البعيد، لم نفهم فيها الحقائق. كما ينبغي ولم ندرس أمور حياتنا الدرس الكافي لمواجهة المشكلات التي تعوق تنمية الفرد والمجتمع، وتجعلنا دائما في حاجة لمساعدات الآخرين. ولولا هذه الاثقال التي حملناها علي عاتقنا دفاعا عن أمتنا العربية والإسلامية، ودفعنا ثمنها غاليا من الدماء والشهداء وتردي الأوضاع الداخلية واحتلال أرضنا، فانشغلنا بل غرقنا في هموم أكبر من طاقة البشر، واستغل ضعاف النفوس من بيننا ومن خارجنا هذه الحالة المتفاقمة فزادونا رهقا، وأوقعوا خلالنا الشقة واثخنوا فينا الجراح، معارك في الداخل ومعارك علي الحدود، وأعداء يتربصون بنا الدوائر، وثروات طائلة سرقت منا بليل، واستنزاف لا يقف لكل ما نحتاجه لإعادة البناء والتنمية والخروج من جحيم الفقر والمرض وانهيار التعليم، وهذه آيات بينة علي أن الوطن ظل يعيش محنة من وراء محنة، في دائرة مغلقة لا يريد أحد أن يكسرها بحقها، ويخرج بنا إلي عالم جديد. لا أود هنا أن أمعن في اطراء ما جري منذ أيام من قفزة هادرة علي الضفة الشرقية للقناة التي حفرها أجدادنا بأظفارهم، وماتوا تحت ترابها، تشم رائحة الدموع والعرق فيه، بينما هناك من يسعي في قتل أحلامنا وتسفيه حبنا لهذا الوطن، نعم هي الطلقة الأولي في معركة طويلة جدا، من بدأها يدرك أن الخلاص الحقيقي للمصريين يكمن في السر الأعمق، فحبات عرقهم ودماؤهم هي التي حبتهم هذه القناة برغم من سطا عليها ونهب خيرها، فقد عادت بالدماء والعرق. كما حفرت بالأمس بنفس المنطق، وقد حدث. وما تحمل الوثبة العملاقة إلي الضفة الأخري من معان كثيرة احتاج فيها إلي الذاكرة وهي تتدفق كموج القناة نفسه في ربوع الأرض التي جلل بها مصر، فسيناء كما كانت مصدر الخطر وموضع المصارع لمئات الآلاف من أبناء مصر، هي الحياة القادمة بكل أشواقها، وهي الآمال المعقودة في الصدور، إذن فنحن أمام عبور جديد للأمل، فمن صنعه ومن تصدي لحمايته حتي يجري علي أرض الواقع، لا يهم، فهو ابن من أبنائها، سوف يقف المنصفون يوما ليقرأوا ما هو حق وينسبونه لاصحابه، إنما الحدث وقع وانطلقت الشرارة الأولي، لكي نبدأ في الاعتماد علي أنفسنا، سواعد وعقولا وأموالا، ربما تبدو كأنها الخاطرة العابرة، لكن الذي جذبها من الأفق البعيد لن يتواني عن رعاية حق الأجيال المقبلة فيها والخروج إليها كما يليق. وكم ارجو أن نطوي معا صفحات الكمد والخسران، فالفلاح مرهون بالإيمان بهذا الفكر وتعميقه في ضمير الأبناء لكي يعرفوا أن العمل والجهد والعرق ابقي دوما من أي مساعدات أو استجداء للآخرين مهما كان لنا حق عندهم، فلدينا من الثروات ما هو أعظم وأجل والإنسان هو أغلي ما في الكون بدليل هذا التكريم الإلهي له دون سائر المخلوقات، وعندما ينفتح أمامه باب الأمل يصنع المعجزات، ولقد أري أن انتصار الإرادة والارتقاء هو أهم الدروس المعتبرة اليوم، وبقي لنا أن نطور الفكرة لنمد كل مشروعاتنا القادمة من أموالنا وان كانت قليلة، وكذلك نمدها من سواعدنا وعقولنا، وهي غزيرة القوة والعمق، وكأن ما حلمنا به طيلة ليال غابرة سوف يصبح حقيقة كفلق الصبح.