يعتبر التراث العمراني والمعماري جزءا هاما من الإرث الثقافي لأي أمة، كما أنه أكثر جوانب هذا التراث أهمية من حيث الكم علي مستوي العالم، لكنه في الوقت ذاته أكثر جوانبه هشاشة. فالمواقع الآثرية التي تضم شواهد الحضارات القديمة، غالبا ما تكون خارج نطاق العمران الأمر الذي يقلل من احتمالات تعرضها للمخاطر بالقياس إلي ما تتعرض له المواقع العمرانية المأهولة بالسكان والتي تحتل غالبا وسط المدينة المكتظ بالأنشطة التجارية وغير التجارية وبأعداد القاطنين فيه. لذا فإن الحفاظ علي الأنوية التاريخية للمدن يطرح تحديات جمة علي مستويات متعددة. وتتمثل أول هذه التحديات، علي المستوي الاقتصادي، في ارتفاع سعر الأرض في هذه الاماكن المركزية، الأمر الذي يثير شهية رأس المال العقاري الذي يبحث عن تحقيق أعلي ربحية من ناحية، ولا تعنيه القيم التي تحملها هذه الانسجة العمرانية الفريدة.. وتتمثل التحديات في مدي ارتباط قضية التراث العمراني والمعماري بالأطر التشريعية والمؤسسية وبالآليات التي تضعها الدولة للحفاظ علي هذا التراث. خامسا، وأخيرا، فهناك تحديات بيئية تتمثل في مفردات الاستدامة وعدم الجور علي حق الأجيال الجديدة في التمتع بالشواهد المادية لتاريخ الوطن. وإذا ما قارنا الدور الذي لعبته مصر في هذا المجال بالقياس إلي العالم العربي أو كل الدول الموجودة جنوب حوض البحر المتوسط لوجدناه دورا يتسم بالريادة. وعلي سبيل المثال، فنحن نجد أن سوريا، مثلا، بدأت تسن تشريعاتها الخاصة بالحفاظ أو صون تراثها عام 1921، أي أن مصر سبقت سوريا في هذا المجال بنحو قرن من الزمان. وينطبق هذا بدرجات متفاوتة علي بقية دول المنطقة. غير أنه من المفارقات أن ريادة مصر التي توجت بوضع القاهرة التاريخية علي قائمة التراث الإنساني لليونسكو، عام 1979، لا تعني علي الاطلاق أن مصر نجحت في الحفاظ علي تراثها العمراني والمعماري. جاء ذلك نتيجة للتوجهات الجديدة للسلطات الحاكمة بعد ثورة 52 التي تبنت خيار التحديث مما أدي الي إهمال الأنوية التاريخية للمدن المصرية وتدهور منشآتها الأثرية وتعرض نسيجها العمراني لعمليات من الهدم والإحلال مما أثر علي تجانسه. مست هذه التحولات القاهرة أكثر من غيرها لكونها العاصمة وقبلة المهاجرون الريفيون الجدد، الذين توافدوا عليها واستوطنوها في موجات متتالية واكبت موجات نزوح الطبقات المتيسرة والوسطي منها للسكني في الأحياء الحديثة التي تم انشاؤها بدءا من عصرعباس حلمي الأول، مما فرغها بالتدريج من قاطنيها الأصليين، بحيث لم يتبق فيها أحد للدفاع عنها ،لتصبح في منتصف الالفية الثانية اكثر الأحياء فقرا وتكدسا، في مفارقة صارخة لكونها أكثر المناطق ثراء كذاكرة حية للوطن بأجمعه. ولم يكن من الممكن ان يستمر تدهور القاهرة التاريخية علي إثر هزيمة 1967 التي مثلت نقطة فارقة في حياة الأمة دفعت الكثيرين الي إعادة النظر في السياسات والأفكار وإعادة إكتشاف الذات الأماكن واللوذ بالتاريخ كقيمة تساعد علي تخطي المحنة في محاولة لتخطيها. ولكن خلال ثورة 25 يناير وعلي إثرها، إنقضت مافيا الأراضي مرة أخري علي القاهرة التاريخية وبشكل غير مسبو. ان تسارع وتيرة الجرائم التي ارتكبت في حق قاهرة الألف مئذنة بعد الثورة نتيجة للانفلات الأمني وتخلي حماة التراث عن دورهم، سواء تمثل ذلك في السلطات المنوطة بحمايته ومعاقبة من ينتهكه، أو في صمت النخبة الثقافية وعدم اكتراثها الذي يصل إلي حد التواطؤ، لهو مؤشر في غاية في الخطورة. وأيا ما كان السبب في ذلك أي غيبة للوعي أو الدفاع عن مصالح ضيقة، فنحن أمام حقيقة صادمة هي أننا نشهد تبديد تاريخنا كما لو أننا لا ندرك أن من لا تاريخ له لا مستقبل له. لذا تأتي الحملة القومية لانقاذ القاهرة التاريخية لتلقي بحجر في المياه الراكدة لعل هذه المياه إذا ما تحركت أن تتحول في يوم ما إلي طوفان يغرق كل من يحاول محو تاريخنا وسرقة مستقبلنا.