الدولة الأموية التي أسسها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه - في عام 41 ه والذي يعد بدون منازع أحد دهاة العرب في زمانه، إلا إن دولته التي امتدت من أواسط آسيا شرقا إلي المحيط الأطلسي غرباً وعاشت عزاً ومجداً وازدهاراً كان مضرب المثل ومطمح الدول، أخذ الضعف ينخر في عضدها بعد وفاته. وللضعف هذا أسباب عدة منها انتشار الفساد والظلم وتوسيد الأمور إلي غير أهلها، كما انتشر الاستبداد الفردي الذي خرج من رحم فساد النظام السياسي وبعده عن مبادئ الشوري والعدل والمساواة، وما دام أن تلك المبادئ توافرت فان انهيار الملك يصبح حقيقة وبجانب ذلك فقد أهمل الجند وعجزت الدولة عن دفع رواتبهم وزادت ديونها فأصبح الخرق اكبر من أن يسر. والأندلس فتحها المسلمون في أواخر المئة الأولي، وشيدوها فيما تلاها من القرون حتي كانت من أعظم حضارات التاريخ البشري في علومها ورقيها، إلي ان دبت الفرقة بين المسلمين فيها، وتنافسوا علي الملك والدنيا، واقتتلوا لأجل ذلك حتي حارب الابن أباه، والأخ أخاه وسيدوا الأمر إلي بطانات فاسدة، فسقطت ممالك وإمارات ودول إسلامية عديدة واحدة تلو الأخري في الأندلس وغيرها. وتذكر كتب التاريخ ان أبي عبد الله الصغير آخر ملوكها أُخرج من عاصمة الأندلس غرناطة ذليلا، فصعد ربوة تطل علي غرناطة وحمرائها، وزفر زفرة ألم وحسرة علي ملكه الذي ضاع، وعلي انقراض دولة الإسلام في الأندلس علي يديه، ثم بكي، فقالت له أمه: (ابك كالنساء ملكا لم تدافع عنه كالرجال)، وما زالت هذه الربوة تسمي إلي اليوم (زفرة الرجل العربي). والدولة العباسية التي قامت علي أنقاض الدولة الأموية، كان تسييد البطانة الفاسدة للأمور السبب الرئيس لسقوطها في يد الأعداء فوزير الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين ببغداد (مؤيد الدين محمد بن العلقمي) كان من بطانة الخليفة وكان مقرباً عنده، يثق به وفي نصائحه، ولكن العلقمي باع هذه الثقة فكان يوحي للخليفة بتقليل عدد الجيش مدعياً أن هذا الاقتراح لمصلحة البلاد وأنه لا داعي لإنفاق مبالغ كبيرة علي هذا العدد الكبير من أفراد الجيش ما دامت البلاد لا تواجه حرباً، وفي الوقت نفسه كان يتصل بالمغول ويغريهم بغزو بغداد والاستيلاء علي الحكم فيها. وغزا المغول بغداد وكانت قوات الجيش نتيجة مقترحات هذا الخبيث في أضعف حالاتها - وانهارت دولة بني العباس وقتل المستعصم بالله آخر خلفائهم، وكان من أكبر أسباب ذلك الانهيار رجل واحد فقط من بطانة السوء، حظي من الخليفة بتعظيم ووجاهة وسلطة ما لم يحلم به غيره من البطانة وبذلك كان سببا رئيسا في قتل الخليفة وسقوط بغداد. ولا يخرج سقوط الإمبراطورية العثمانية التي أطلق عليها في نهاية عهدها (الرجل المريض) عن أسباب سقوط دولة بني أمية والدولة العباسية. ان في قصص التاريخ عظات بينة لمن يتعظ وعبر عظيمة لمن يفكر ويمعن النظر في تاريخنا السياسي ماضيه وحاضره يستشف تلك العظات وتظهر له تلك العبر والدروس، وما حدث في العراق وتكرر في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا فرأينا أنظمة استبدادية تسقط تباعا إلا درسا من دروس التاريخ يلقيها علينا بلغة فصحي يفهمها حتي الأعشي والأصم.