»من يصدق أن الدكتور مجدي يعقوب الانسان، الطبيب العبقري الذي ترك مجد الدنيا وجاء إلي أقصي مصر ليرد الجميل ويغيث مرضاها، من يصدق أنه يطلب العون لمستشفاه.. مازال« من خلال يوميات الاخبار، في عام عشرة من هذا القرن طالبت بمنح الدكتور مجدي يعقوب قلادة النيل. ارفع وسام مصري علي الاطلاق وبسطت مبرراتي، عبقريته العلمية التي طورت عمليات جراحة القلب وخاصة زرع القلوب. هذه العبقرية النادرة يقترن بها مقام انساني رفيع. وروح مصرية نقية غائرة في هواء وتراب هذه الارض »كميت« وهو الاسم القديم لمصر أي الارض السوداء، علي امتداد سنوات طويلة كان يتردد علي مصر لاجراء العمليات المعقدة في المستشفيات العامة المصرية، خاصة لغير القادرين علي دفع تكاليف العلاج الباهظة، كان يجيء في صمت، دافعه الاساسي، الوحيد إنساني بحت، لم يسع إلي الاعلام خاصة المرئي، لم يلق محاضرات يسرب خلالها الرسائل السياسية، لم يضع اسمه علي جامعة بناها اخرون، لم تحط به ضجة اعلامية أو فنية، بدأ الشعور العام به من خلال نشاطه العلمي والانساني خلال أسفاري التقيت بنوعين من المصريين، الاول يمثله كثيرون هاجروا إلي الغرب، غير ان جذورهم ظلت موصولة قائمة بالوطن الأب والأم. ومعظمهم يفكرون في وسيلة ما لرد الجميل فقد تلقوا أول الحرف في مدارس مصر وتدرجوا في مراتب العلم حتي انهوا دراساتهم، سافروا وبقوا، فالانسان الحقيقي لا يرحل بمشاعره وذاكرته عن مهاده الأول، أما النوع الثاني فهذا قليل، رغم نجاحه العلمي إلا أنه يسعي إلي امتصاص اخر ما يقدمه إليه أهل الوطن الاصلي الطيبون، يجيئون للبحث عن فرص استثمار سهلة يتربحون منها، أو انتشار اعلامي لا يمكنهم تحقيقه في مهاجرهم فمثلهم كثير، كثيرون التقيت بهم في مجالات مختلفة، حققوا التقدم والنجاح المهني ثم راحوا يبحثون عن وسيلة لمساعدة ابناء وطنهم أو مؤازرته في الحالات الصعبة، ويمثل الدكتور مجدي يعقوب ذروة هذا الاحساس الانساني بالواجب تجاه الاوطان خاصة والبشرية عامة، حصل الرجل علي أرفع تقدير في بريطانيا، الرحلة ليست سهلة، المنافسة شرسة لا ينفذ منها إلا المتمكن القادر بمواهبه لا غير، بعد أن حقق ما حقق. جاء إلي أقصي الجنوب في مصر وأقام مشروعه الخيري لعلاج الاطفال الفقراء تحديدا الذين تصيبهم الحمي الروماتزمية التي تلحق التلف بصمامات القلب ولا يبدو هذا إلا في مرحلة متقدمة من العمر. كتبت في اليوميات مطالبا له بقلادة النيل وايضا للدكتور محمد غنيم الذي أقام في الدقهلية مركزا لعلاج الكلي وبعلمه واخلاصه ودأبه أصبح مركزا عالميا. تجربة خصبة مليئة بالدلالات، لم يهتم الاعلام المصري بها، ولكن نجاح الجهد وصل إلي مختلف انحاء العالم. بعد نشر اليوميات بعدة اسابيع تلقيت دعوة من الرئاسة لمنح الدكتور مجدي يعقوب قلادة النيل. لا أعرف هل كان ذلك استجابة لما كتبت أو أنه توارد الخواطر، توجيه الدعوة إليّ تؤكد أن لليوميات دورا ما خاصة أن العدد كان محدودا جدا. جري الاحتفال يوم السابع عشر من يناير. أي قبل الثورة بأسبوع واحد، وفيه وقع بصري علي الدكتور مجدي يعقوب لأول مرة وصافحته مهنئا بين المدعوين، لماذا لم يمنح الدكتور محمد غنيم الوسام الرفيع؟ ربما لانه كان من مؤسسي حركة كفاية إلا أن المطلب مازال قائما فهو يستحق أرفع درجات التكريم لانجازه العلمي والانساني. خلال زيارتي الاخيرة للولايات المتحدة التقيت بالدكتورة فاطمة عليم وفوجئت بها تقول ان الدكتور مجدي اتصل بها وقال ان المستشفي في أسوان يحتاج إلي جهازين قيمة كل منهما مائة وخمسون ألف دولار، وأنه يأمل في دعم الدكتورة فاطمة التي قامت بجهود سابقة مماثلة اشرت إليها في اليوميات، إذن.. فلأذكر بفاطمة عليم التي أطلقت عليها بيني وبين نفسي. قديسة من مصر.. فاطمة عليم منذ سنوات، التقيت بالدكتورة فاطمة عليم في حفل أقامته رابطة الاطباء المصريين في نيويورك، دعاني الصديق علاء الرافعي، حفيد الاديب مصطفي صادق الرافعي، وبحضور الدكتور عبدالوهاب المسيري حاضرا، كان يعالج من مرض خطير وفي حالة متقدمة، إلا أنه كان يفيض حيوية وتفاؤلا، عاد من امريكا ليقود مظاهرة من حركة كفاية في ميدان التحرير وأختطفه الأمن إلي الصحراء، القاه هناك وكان جسده كله محاطا بالضمادات، يعلق ساخرا علي ذلك بأن هواء الصحراء الجاف أفاد رئتيه، دائما أذكر مواقف الراحل العزيز الشجاعة، الناصعة، واستدعي في المواجهة مواقف البوب المزيف الذي خدع العديد من شباب الثورة، كان يخاف علي ياقة قميصه من التلوث اذا نزل مظاهرة أو تجمعا، ثم انتهي بموقف جسده الفنان القدير مصطفي حسين ببراعة عندما صوره يغمد خنجره في جسد مصر. وهنا أذكر انني نبهت إلي خطورته في عدة مقالات خلال وجوده في قمة السلطة، لم يكن قد هرب بعد إلي الغرب، رحم الله الدكتور المسيري. كان الحفل في نيوجرسي، وكان بداية تعرفي إلي مجموعة من الاطباء الذين هاجروا وحققوا استقرارا ماديا إلا ان الجذور لا تزال حية والشعور العام احساس عميق بالجميل وضرورة عمل شيء ما، عرفت منهم في نيويورك الدكتور مصطفي الخشاب استاذ جراحة المخ والاعصاب، كل ستة شهور يجيء إلي مصر لا ليقضي إجازة في المنتجعات أو ليظهر في البرامج الاعلامية يجئ إلي القصر العيني حيث يعمل بشكل متواصل في هذه الجراحات الدقيقة رغم ظروفه الصحية. أما الدكتورة مني شرقان فجهدها من أجل أعمال الخير لا يتوقف ومنذ أربعة أعوام كنت طرفا في مشكلة ادخال جهاز ضروري لمرضي السرطان »الاطفال بالتحديد« وكان موجها إلي جامعة الاسكندرية، الجهاز ينظم ادخال العلاج الكيماوي إلي الجسم، وعلمت من الدكتورة فاطمة ان الدلتا كلها لا يوجد فيها مثل هذا الجهاز، لا يوجد في مصر ينظم مثل هذه التبرعات، الجهاز ثمنه يقارب المائة ألف دولار دفعتها بالكامل الدكتورة مني شرقان، في ذلك الوقت كان الدكتور هاني هلال وزيرا للتعليم العالي، وهو رجل شريف، تفاني في خدمة مصر خلال عمله كمستشار ثقافي، تحدثت إليه عن دخول الجهاز وتسليمه إلي جامعة الاسكندرية، كان المطلوب اعفاء من الجمارك، وقدم الدكتور هاني النصح بخصوص الاجراءات القانونية التي تؤدي إلي الاعفاء، صحيح انها متعددة وتستغرق وقتا ولكن لابد منها، وتعاونت رئيسة جامعة الاسكندرية في سبيل ذلك، واستقر الجهاز فعلا في جامعة الاسكندرية ومنذ ذلك الحين يخدم الاطفال من مرضي السرطان، الدكتورة فاطمة لا يشغلها هذه الايام إلا تدبير التمويل اللازم لتوفير الجهازين اللازمين لمستشفي الدكتور مجدي يعقوب والتي تستحق كل دعم لنقاء سيرتها ونبل مقصدها، في الولاياتالمتحدة يتم اقامة حفلات في الفنادق لجمع هذه التبرعات وتوجه الدعوة إلي القادرين الذين يشاركون ويدفع كل منهم قيمة مشاركته التي تشمل تكلفة الفندق الذي سيقام فيه الحفل وقيمة العشاء، غير ان الكل لا يشارك في دفع التبرعات، حضرت في نيويورك اكثر من لقاء بين السفير أحمد فاروق القنصل العام في نيويورك وهو من أقدر السفراء الذين التقيت بهم في الخارج وبين الدكتورة فاطمة لتدبير الامر، السؤال هو، لماذا لا يتم التبرع من داخل مصر وفيها من القادرين الكثيرون، ليت صحيفتنا الأخبار تتبني ذلك من أجل مستشفي مجدي يعقوب في أسوان. حلم مسافر، تقلع بي الطائرة ولا أعرف وجهتها، ثمة إدراك خفي بأنني متجه إلي الشرق، إلي أين بالضبط؟ لا أدري، لا أعرف وجوه الركاب، يعلن قائد الطائرة أننا سنهبط في طرابلس الغرب ثم نتابع رحلتنا، لم يقل إلي أين؟، لابد من مغادرة الطائرة خلال فترة التوقف. المطار لم أعرف مثله من قبل، بناية مرتفعة، سميكة الجدران، الألوان كلها غامقة، متفرعة من بني قديم مشوب بحمرة وصفرة، أطل من فتحة في جدار، أكتشف أننا فوق سطح، جدران مصمتة، تؤدي إلي ما يشبه الوادي غير المستوي، بناية تشبه ما يرسمه بيتر بروجل الابن في لوحاته، مبان لا شبيه لها في الواقع، غير واضح الغرض منها، لا ينبئ خارجها عن أقسامها. غرفة الانتظار خالية تماما من الفتحات، مسدودة، صالات متداخلة، مزدحمة، أمسك بكتب ملفوفة في ورق، أسندها إلي جوار الباب الذي لابد أن أنحني كي أعبره، بشكل ما أدرك من حركة الناس أن الخروج إلي الطائرة عبر تلك الوجهة، تتزايد حركة الركاب، لا أدري مصدر التعليمات التي أتلقاها لكنني أعي أن الآوان قد حل. أين الكتب؟ أخرج إلي المكان الذي وضعت فيه اللفافة. جنود جيش ما. أمتعتهم متناثرة، بعضهم يتمدد نائما، يبدو عليهم التعب، النداء الاخير يتردد. أدرك أنني فقدت الممر المؤدي إلي الطائرة، أسرع من حركتي حتي تصبح هرولة، أهرول لكنني لا أتقدم، لا أتحرك، أتقبل فقدان الكتب، هلعي مصدره فوات الطائرة، أحاول الخطو لكنني أجري مكاني بينما تقترب أنحاء المبني مني.. رقص تلك الايدي المرتفعة في الفراغ، متجاوزة الرؤوس، متوالية، متدفقة، نازحة إلي حيث لا يمكن الذهاب بالبصر إلا لمدي، أكاد أصغي إلي النائحات، ما جعل اللوعة تتمكن من ملامحهن، حركة الايدي نافضة للحزن إلي الفراغ اللامدرك، فيها أيضا إشارات الوداع لراموزا الذي تمضي مومياؤه إلي الأبدية، كفاني مرة واحدة رؤيتها حتي أستعيدها باستمرار، كأنها ماثلة أمامي، في مجال بصري، أينما وليت أراها، كلما داهمني حزن غتيت، جثوم، مجهول الأسباب، خاصة في أويقات الانتقال. من النهار إلي الليل، من حر إلي صيف، عند مفارقة مكان إلي آخر، أرغب في البوح الدمعي، عندئذ يمثلن أمامي فأرد لو رفعت يدي مثلهن ملوحا، نائحا علي أيامي، طويلة الاوقات التي أمضيتها أمام ذلك الجدار الجنوبي من مثوي راموزا، وزير اخناتون، في مراقد النبلاء، طيبة، البر الغربي، القرنة، لكنني أقول دائما إنني لو لم أر تلك الجدارية إلا مرة لأتقنت ألوانها وتفاصيلها، ومع الزمن صارت ملامحهن المرسومة متداخلة مع أولئك الذين عرفتهم في أيامي التي أمر بها، إلي أن طالعتهن ذات صباح. أجلس في العربة المتجهة إلي حيث أحل، عند شارع ستة وعشرين يوليو - فؤاد سابقا - تبدو مخارج أو مداخل بعض حارات بولاق، من إحداها خرجن، في البداية رأيت حركتهن الموحدة، المتناغمة، المتموجة، متصلة بينهن رغم انفصالهن، تصدر عنهن في توقيت واحد، لا تتوحد الحركة فقط إنما تتلاشي الفروق بين أجسادهن، لون الملابس حدادي، أسود، جلابيب، ولان لكل حركة منبعثا ومركزا فقد اتجه بصري مباشرة إلي الفارهة التي تتوسطهن، أطولهن قامة، ترتدي جلبابا قاتما، طرحة، وجهها ملطخ بالنيلة الزرقاء، أعرف النيلة كمادة صباغة، زرقتها تميل إلي السواد، أعرفها عند غضب النساء يصحن »نيلة في وشك..« النيلة تغطي الوجنتين والجبهة، أما حركات الجسد فراقصة، تموجات البدن تستدعي الرقص، لكنه مغاير ما رأيته، رقص يحاول الافلات، اخراج شيء ما، غير مرئي، تبذل الجهد لنفضه بإتجاه الفراغ، تميل أحيانا إلي اليمين أو اليسار فيبادرن إلي مساندتها، عندئذ تنطلق إلي أعلي باذلة الجهد لتجاوز حضورها المادي، تجسد الحركة لوعة الفقد، حيث تتداخل حركات الجسد، لا القيام ينفع، ولا الجلوس يريح، ولا التمدد يهدئ، لا الانحناء ولا التطلع، أما الايدي فتتجه صوب الفراغ مستغيثة، مستجيرة، في محاولة يائسة للواذ بحد ما. استعدت ما قاله صاحب لي عن فقد عائل، وما يعنيه من ضياع وانهيار، ما يستثيره الرحيل المؤكد، وفي مواجهتي تتداخل أيدي النساء في مقبرة راموزا، بهؤلاء اللواتي رأيتهن يسعين في مقتبل نهار قادو، ميل المكلومة يمينا ويسارا، كثيرا ما تبدو في مواجهتي، حيث لا أتوقع. »من نثار المحو« قتيل »1« »يا خرابي!« مكثفة، مركزة، مبتوتة، لا قبلها ولا بعدها، شطرت الصمت الصباحي في ناحيتنا، صار لها ما قبل وما بعد، يخيم نذير، رغم الصرخة المدعمة إلا أن مضمونها سري إلي سائر من تسلمها بالسماع، تتقدم أمي وامرأة خالي صوب البوابة، خرج خالي مبكرا، قبل طلوع الشمس قاصدا سوق نزة الحاجة، تتطلعان من الباب الموارب، يمكنهما الرؤية بدون ان يلمحهما غريب مار، أو قريب مقيم. أتسلل مجتازا ما بينهما، أطل محدقا بفضول، ضيف الله مدلل فوق الحمار، بدون عمامة، حاسر الرأس، يداه باتجاه الارض، قدماه الناحية الاخري، عيناه مغمضتان، ملامحه متداخلة، بقعة دم حمراء عند الظهر، الحمار ساكن تماما، مطأطئ الرأس والاذنين، جاء بمفرده من الملقا، الخلاء المزروع خارج البلدة حيث أمضي ضيف الله ليلته الاخيرة، هناك طخوة، تمكنوا منه. لأول مرة أواجه الموت القسري، المباغت، المفاجئ، القتل، علي امتداد سنوات وعقود تروح اللحظة وتجيئ، لم تدعني أمي أحدق طويلا، أمسكت يدي لتدخلني إلي البيت، لكنني استعدت ما جري معها مرارا فيما بعد. لم تصرخا، هي وامرأة خالي، انسحبتا إلي فناء البيت بعد ان ظهر شقيقه ليحمل الجثمان إلي داخل الدار بينما أمه ترقب صامتة، قامعة حزنها الثاقب، ذرف الدمع ولطم الوجنتين مؤجل إلي حين مقدر، عندما يلقي الدم الدم، ممكن بعد أسبوع، بعد شهور، بعد سنين، أيا كانت المدة، لابد ان تحين اللحظة، عندئذ تهدأ روحه في مثواها، ويمكن للأم والاقارب ابداء الجذع المؤجل وتقبل العزاء في الغالي، المقتول غدرا. تلك اللحظة من صباح صيف جنوبي حار، شمسها حامية والضوء نافذ، ذلك الصمت الذي أعقب صرخة الأم الثكلي والخرس المفاجئ، في المواجهة مصير تحدد وعمر أقفل، آخر يسعي في موضع ما، قريب أو بعيد، ربما لم يولد بعد، مازال غيبا لم يتجسد، لكن التصويب نحوه بدأ منذ تلك اللحظة، مجهول ما وضع الجثة فوق الحمار، حمار فضل الله في وقفته بدا حزينا، عيناه عكرتان، في الطرف ما يقارب الدمع. بمجرد تحميل الجثة فوقه بدأ خطوه المتئد مجتازا الملقا والجسر والطريق الترابي الصاعد إلي البيوت التي تتجاور طبقا لسكني الاقارب، يتخللها رحبات فسيحة، لا يحتاج إلي دليل أو وكزة لحثه. يعرف طريقه كما يدرك مغزي الثقل الذي يحمله، بعد أن شالوه نخ علي أربع، مدد رقبته إلي الامام ولم يقترب منه أحد. قتيل »2« تساءلت أمي »مالك يا أحمد؟« عندما تنطق اسمه فهذا عين الحنو، وذروة إبداء القلق، عندئذ لابد ان ينطق، حتي بالصعب. »الشيخ محمد.. تعيشي انت..« »محمد حسنين؟« »نعم.. هرسته عربة نقل..« مات مزنوقا ما بين العربة وجدار المسجد الذي قصده لتأدية صلاة الفجر، أي أنه مات شهيدا، أصغي من مرقدي إلي حزنهما ورثائهما للرجل الصالح. أري الرجل الممتلئ قليلا ملتحفا بالجبة والقفطان، حول خصره حزام عريض من حرير، فوق رأسه عمامة حمراء محاطة بشال أبيض، زي أهل الازهر وخدمة العلم، أمر عبره إلي البيت القديم، الفناء الذي تتوسطه فسقية قديمة، مغمورة بضوء هادئ رطب، ظل ظليل فلابد أنه الشتاء، النوافذ المغطاة بالخشب المخروط، الصالة الفسيحة والغرفة الداخلية المسورة بالكتب، كتب، كتب مجلدة، بعد الغداء أتسحب لأتأملها، العناوين مكتوبة بحروف مذهبة قرب المنتصف، تحت اسم الشيخ، البيان والتبيين، السيل الجرار، افتتاح الدعوة، تفسير المراغي، كتب بالطول، أخري فوقها بالعرض، أشعر أن ثمة من يرقبني ، ألتفت، أطرق خجلا، لا أعرف متي دخل إلي الحجرة وتربع فوق الكنبة، يتطلع إليّ هادئا، حانيا، مشجعا، عندما يلحظ خشيتي يسألني »تعجبك الكتب..« هيئته، قعدته ماثلة، أما ملامحه فغائبة، لا أقدر علي الامساك بها، لكن الوقت، مكان البيت يجتازان بي مالا أعرفه إلي ميدان القلعة، منظومة المساجد العتيقة التي تراكمت معارفي حولها درجة، درجة، مسجد محمد علي أعلي، في الميدان المحمودية، قاني باي الرماح، في المواجهة السلطان حسن، الرفاعي، مرجعية هذا كله عندي لحظة لا يمكنني تعيينها أعبر خلالها الميدان إلي بيت الشيخ محمد حسنين بصحبة أبي و أمي وأشقائي. أعبره مع صحبي، أعبره وحيدا، أروح فيه، أعود إليه، أجتازه ولا أتوقف، لكني في جميع الاحوال ألتفت فجأة فتطالعني تلك البصة وذاك الحنو الغارب. حلم أستيقظ قاصدا دورة المياه. أعي بيتي لكنه ليس المكان الذي أعرفه، ثمة مكان يتداخل مع المكان المألوف، مكان مجهول، ما بينهما انشطر، لا أعرف في أيهما أخطو.