حرصت عندما انتقلت للعمل رئيسا لمكتبنا الزراعي بأمريكا إلي الاستفادة من تجربة أمريكا الزراعية التي وفرت لها فائضا كبيرا في إنتاج الغذاء إلي حد التخلص منه أحيانا.. وظننت في بداية الأمر كالكثيرين غيري ان السر في تفوق الزراعة الأمريكية يرجع إلي نظامها الرأسمالي فهيأت نفسي لاستيعاب سياسات السوق الحر التي سادت بها أمريكا العالم وبالأخص انها السياسات المقترحة دائما علينا من صندوق النقد والبنك الدولي وغيرهما في روشتة الإصلاح الاقتصادي باعتبارها الدواء الوحيد المتاح للشفاء من مواجع الاقتصاد وانيميا الغذاء. بعد مرور شهور قليلة قضيتها في زيارات ميدانية للعديد من الولايات المتميزة زراعيا والمشاركة في مناسبات متنوعة اكتشفت ان قوة الزراعة في أمريكا ليست في نظامها الرأسمالي بل في الآليات والهياكل غير الحكومية التي ابتكرها هذا النظام لرعاية الفلاح والنهوض بحرفته بصورة عملية تفوق في أبعادها الاجتماعية كل مزاعم وأحلام النظم الاشتراكية وهو ما جعلني أشد حماسا لدراسة الآليات التي يتمتع بها الفلاح في أمريكا الاشتراكية، وتوفر له مزايا لا يتمتع بها اشقاؤه في الدول التي تتلذذ بتشويه اقتصاد السوق الحر بانتقاء ما يحلو لها من سياساته بدون ضوابطها الاجتماعية. بالرغم ان فلاحي أمريكا لا يتمتعون بمزايا اشتراكيتنا التي تخصص لهم نصف عدد المقاعد في مجلسي الشعب والشوري إلا ان صوتهم أشد قوة وتأثيرا حيث لا يمكن اقرار تشريع أو قانون يتعلق بالزراعة أو الفلاحين قبل العديد من جلسات الاستماع مع اتحاد الفلاحين الأمريكي الذي يقوده رئيس قوي يتم انتخابه بدون تسييس أو تزوير في مؤتمر عام يشارك به الفلاحون وأسرهم من سائر ولايات أمريكا في احتفالية لا يمكنني نسيان مشاهدها الرائعة.. في أمريكا أم الرأسمالية يتمتع الفلاح بثلاثة أشكال من الدعم وهي الدعم النقدي والدعم الفني والدعم البيئي وفلسفة الدعم في أمريكا ليست سياسية لاسترضاء الفلاحين وإنما كحافز لاستبقائهم في ممارسة الحرفة التي تتميز عن غيرها كالصناعة أو التجارة بتعدد وظائفها التنموية.. ومن هنا تبرهن أمريكا ان الدعم لايتعارض مع اقتصاد السوق الحر لو احسنا استثماره. الفلاح الأمريكي يتمتع بنظام تعاوني قوي يوفر له مزايا التمويل والتسويق بشكل تتضاعف معه كل يوم الاستثمارات الزراعية التي هيأت لصغار المزارعين فرص الصعود لمصاف كبار المستثمرين كما يتمتع الفلاح بآليات التأمين ضد مخاطر تقلبات السوق والكوارث الطبيعية. المساحة لا تتسع للحديث عن تجربتي الزراعية في أمريكا التي تحتفل غدا بعيدها الوطني وهي فرصة لتهنئة الفلاحين الأمريكان والدعاء لأشقائهم في بلدنا بالصبر والسلوان.