الدولار خلال إجازة شم النسيم.. أسعار العملات في البنك الأهلي والمركزي وموقف السوق السوداء    أسعار اللحوم اليوم الأحد 5 مايو 2024.. كم سعر كيلو اللحمة في مصر    الأرصاد تحذر من انخفاض درجات الحرارة وتساقط الأمطار على هذه المناطق (تفاصيل)    مصر للبيع.. بلومبرج تحقق في تقريرها عن الاقتصاد المصري    حملة ترامب واللجنة الوطنية للحزب الجمهوري تجمعان تبرعات تزيد عن 76 مليون دولار في أبريل    مصر على موعد مع ظاهرة فلكية نادرة خلال ساعات.. تعرف عليها    روسيا تصدر مذكرة اعتقال للرئيس الأوكراني زيلينسكي    أول تعليق من مدرب سيدات طائرة الزمالك بعد التتويج ببطولة إفريقيا أمام الأهلي    نجم الأهلي السابق يوجه طلبًا إلى كولر قبل مواجهة الترجي    قصواء الخلالي: العرجاني رجل يخدم بلده.. وقرار العفو عنه صدر في عهد مبارك    بورصة الدواجن اليوم.. أسعار الفراخ والبيض اليوم الأحد 5 مايو 2024 بعد الارتفاع    هل ينخفض الدولار إلى 40 جنيها الفترة المقبلة؟    حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    علي معلول: تشرفت بارتداء شارة قيادة أعظم نادي في الكون    العمايرة: لا توجد حالات مماثلة لحالة الشيبي والشحات.. والقضية هطول    بعد معركة قضائية، والد جيجي وبيلا حديد يعلن إفلاسه    تشييع جثمان شاب سقط من أعلي سقالة أثناء عمله (صور)    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    كريم فهمي: لم نتدخل أنا وزوجتي في طلاق أحمد فهمي وهنا الزاهد    تامر عاشور يغني "قلبك يا حول الله" لبهاء سلطان وتفاعل كبير من الجمهور الكويتي (صور)    حسام عاشور: رفضت عرض الزمالك خوفا من جمهور الأهلي    ضياء رشوان: بعد فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها لا يتبقى أمام نتنياهو إلا العودة بالأسرى    عمرو أديب ل التجار: يا تبيع النهاردة وتنزل السعر يا تقعد وتستنى لما ينزل لوحده    الزراعة تعلن تجديد اعتماد المعمل المرجعي للرقابة على الإنتاج الداجني    حسب نتائج الدور الأول.. حتحوت يكشف سيناريوهات التأهل للبطولات الأفريقية    كاتب صحفي: نتوقع هجرة إجبارية للفلسطينيين بعد انتهاء حرب غزة    احتجاج مناهض للحرب في غزة وسط أجواء حفل التخرج بجامعة ميشيجان الأمريكية    مصرع شاب غرقا أثناء الاستحمام بترعة في الغربية    إصابة 8 مواطنين في حريق منزل بسوهاج    رئيس قضايا الدولة من الكاتدرائية: مصر تظل رمزا للنسيج الواحد بمسلميها ومسيحييها    اليوم.. قطع المياه عن 5 مناطق في أسوان    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    محافظ الغربية يشهد قداس عيد القيامة بكنيسة مار جرجس في طنطا    البابا تواضروس يصلي قداس عيد القيامة في الكاتدرائية بالعباسية    مكياج هادئ.. زوجة ميسي تخطف الأنظار بإطلالة كلاسيكية أنيقة    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    عاجل.. مفاجأة كبرى عن هروب نجم الأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    عبارات تهنئة بمناسبة عيد شم النسيم 2024    تساحي هنجبي: القوات الإسرائيلية كانت قريبة جدا من القضاء على زعيم حماس    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    نميرة نجم: حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها غير موجود لأنها دولة احتلال    سعاد صالح: لم أندم على فتوى خرجت مني.. وانتقادات السوشيال ميديا لا تهمني    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    صيام شم النسيم في عام 2024: بين التزام الدين وتقاطع الأعياد الدينية    بعد الوحدة.. كم هاتريك أحرزه رونالدو في الدوري السعودي حتى الآن؟    عوض تاج الدين: تأجير المستشفيات الحكومية يدرس بعناية والأولوية لخدمة المواطن    لطلاب الثانوية العامة 2024.. خطوات للوصول لأعلى مستويات التركيز أثناء المذاكرة    محافظ بني سويف يشهد مراسم قداس عيد القيامة المجيد بمطرانية ببا    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    نجل «موظف ماسبيرو» يكشف حقيقة «محاولة والده التخلص من حياته» بإلقاء نفسه من أعلى المبنى    شديد الحرارة ورياح وأمطار .. "الأرصاد" تعلن تفاصيل طقس شم النسيم وعيد القيامة    المنيا تستعد لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    مهران يكشف أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في التأمين    من القطب الشمالي إلى أوروبا .. اتساع النطاق البري لإنفلونزا الطيور عالميًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
عيني علي طرف الممشي


تلمس نغمات السمسمية اغوار قلبي، ايضا قصائد الغناء
المصاحبة لها غير ان هذا البيت كان له ملمس ومغزي
الضاحية
بورفؤاد، حركة العابرين من السكان وتفرقهم، كانت اشبه بضاحية في مدينة ساحلية بعيدة، السماء والأرض والبيوت الصغيرة للعاملين بالهيئة والأثر الذي تركه الاجانب، عناصر شتي تكون واقعا خاصا، في هذه المنطقة بالذات القناة تشكل حضورا لم أعرف مثيلا له، تماما مثل رائحة الحياة في مدخل حي الجميل، كل شيء في بورسعيد له خاصية، له اختصاص، له روح مغايرة، المدينة ليست معمرة مثل السويس، لكنها عرفت كيف تصيغ سمتها، سكانها من دمياط، هؤلاء مهاجرون، اما الذين بقوا بعد الحفر فمن الصعيد، امتزاج خاص، نتاج تفاعلات انتجت هذه اللجهة المتميزة التي لم أعرف لها مثيلا في الوادي كله، لكن.. من اين جاءت الطنبورة، هذه الرقصات الفريدة. هذه النصوص، كلها رسائل من قديم اينعت وأثمرت مع زكريا ابراهيم وصحبه، كلما استعدت بورفؤاد التي عرفت منتصف الستينات يدركني صفو وأتلفت ورائي، أتلفت خلفي، ليس بالمعني المحسوس، ولكن ما يصعب علي التحديد والتعيين، هنا أذكر شيئا من ثلاثة افصح عن عناوينها.
ثلاثة أمور
الأول وصولي سيرا علي الأقدام الي الضفة الغربية للاقصر حيث مقام الشيخ الطيب الكبير والحضرة التي سأصير اليها بعد سنين التي انا محصلتها وناتجها وحصادها. الثانية خروجي وحيدا، وقوفي علي الحافة فوق فرقاطة تنطلق في البحر الابيض باقصي سرعة والليل مثقل بغيوم، الثالث عندما تطلعت لأول مرة من تلسكوب مرصد القطامية قبل ظهور المريخ الذي اقترب من الارض الي اقل مسافة ممكنة، عدت في ليلة أخري للمشاركة في طلة علي عمق المجرة، برنامج علمي مشترك مع ناسا، حدقت الي الغبار الممتد في درب التبانة، ضوء يلمح، نجم سوبر نوفا علي وشك الانفجار، رأيت صورا كبيرة الحجم من وكالة ناسا، عمق الكون، نجرات علي أبعاد سحيقة، تمليت ورددت ما قيل لي عن احتمال وجود مائتي مليار كوكب يمكن ان تصلح الحياة علي عدد منها، أي مليارات، الضوء مصدر كافة ما يمكن ان يدل علي ما يجري في الكون، الاحمر غالب بدرجاته، مما حببني في طراز بخاري ان كافة زخارفه من لون واحد بتدرجاته، الأحمر الياقوتي وهو من الالوان المعبرة عني، النابعة مني، لي به هوي وقرب قريب لها اقدر علي تفسيره أو شرحه، تشبه الصورة ما رأيته عندما تطلعت الي نقطة من دمي تحت المنظار الالكتروني وكان ذلك خلال تجهيزي للعملية الأولي التي شق فيها صدري، وجري تقليب قلبي، يومها كدت اشهق، الكون في دمي، عين الصورة التي التقطها أول تلسكوب يدور خارج الغلاف الجوي، هابل.
»أنا الكون.. الكون أنا..«
في هذه اللحظة تولدت عندي الفكرة ان المجرات والمسافات السحيقة التي يسكل العقل البشري عن استيعابها ليس الا صورة، تماما مثل صورة دمي، عين الخطوط نفس الومضات، درجات الضوء، الموجود كله صورة، نتاج مخيلة، تماما مثل ما أحاول تبينه عبر الاستعادة قصدا أو تلقائيا مع انني مررت به وعشته، خطوت فوق ارض، وتمهلت في شوارع بورفؤاد قبل عودتي الي مرسي العبارات، ثم اتجاهي الي المقهي في شارع محمد علي بالحي البلدي لتدخين الترجيلة بعد تناول وجبة سمك مشوي من الشبار في مطعم ابوطبل، كان له شهرة ومكانة وفرادة، قبل ظهور كافة المطاعم الشهيرة التي افتتح بعضها فروعا في المدن المصرية والعربية، ما شهدته واتحدث عنه كان قبل هزيمة يونيو والتي غيرت حالي وقلبت اماكني، كافة اسفاري وما اجتزته من مندلعات صباباتي وكوات مجامري صار الي بقايا صور صامتة، شظايا لحظات اتكويت بها، لم يتبق منها شيء ، فقط صور تماما مثل المجرات النائية والنجوم المقتنصة والكواكب الدوارة السحيقة، في معزلي الاجباري، أو لنقل الاختياري، ارقب الغرباء عني في الممرات التي تحفها اشجار جئت وهي مورقة بكثافة وخلال شهر واحد اصبحت اغصانا عارية، لا نعرف هذه الفروق الدقيقة بين الفصول. فصولنا في غير الاوضاع المتعارف عليها، ربيعنا في خريفنا، صيفنا ممتد، شتاؤنا بارد جدا لمدة اسبوعين أو ثلاثة في يناير اما نواتنا فلا تخلف مواعيدها، أعرف أن اماكن كثيرة صارت إلي بقايا صور، بعضها اختفي تماما، ما تبقي لي هشيم يتبعه هشيم، الغريب أنني اجتهد فتمربي واهجات لا أدري أين عرفتها، ومداخل بنايات عتيقة، اما وجوه الاصحاب التي رحلت فما أكثرها. طابور يتري، يتوالي والدائرة توشك ان تنغلق بعد ان جري هذا التسلل الذي لم أضعه قط في الحسبان، يوكد الاطباء أنه الالم الذي لحق بالنفس، قال الدكتور حسام »انت ما سمعتش اللي بيقول.. دا دمه اتحرق..«
اللا مكانة
احدق الي اللاجهة، أمتن لمن أجهل وأشكر علي مالا أعرف فقدمته اليّ أو جميله عليّ، اتمهل واتطلع بخوف الي الليل، ربما يبدأ غروب التمامي فيه، فجرا، هكذا كل من سبقني من اسرتي التي ظننت بقاءها ابدا، بل إن المخاطر تحدق باسرتي الثانية وهذا ما احاول تأجيل ذكره لأن ما هددنا لحقني، امور طويلة دقيقة تضعني علي المشرف الاقصي، اريد توليه.. وجهي الي نقطة آلفها، اطمئن عندها، اثق فيمن يتلقاني هناك، اذن الي جهينة، الي ربع حسام الدين، الي البيت الذي ولدت فيه ومازال موجودا، هو الوحيد من الطين اللبن وجميع ما يحيطه طوبة حمراء بالخرسانة، تتغير الزوايا والنواحي والجدران التي الفناها بقسوة ضارية لذلك ارجو من لا اعرف الترفق علي ما كان وشد ازري لاستعادته بالمخيلة سليما ولو للحظة، احيانا أري الثوابت معلقة والشرفات في اعلي عليين، والمداخل التي احببتها مشهرة لاتؤدي الي شيء. بل انا معلق لا اعرف جهاتي لا أعرف مقاصدي وموانيء اسفاري التي شرعت اليها، فلا تمهل، مالي أتهدهد؟
أوشك علي ذرف الدمع، مالي، بقدر ما سأجتهد في الاستعادة سيوهب لي: لاشيء من لاشيء.
لماذا عبوري؟
اتعجل استعادة السويس، خاصة ليلة الاحتفال بعم حسن السوداني، ولكن تتدفق عليّ الصور، ليس ما مضي الا صورة باردة، لا حركة فيها، لا صوت، فقط جزء من المشهد، عبر صياغة الذاكرة التي تحيرني، لماذا تبقي هذه اللحظة وتفني أخريات رغم أن ما تحويه يفوق ما أتوقعه؟ لمن الخيار؟ من يبقي هذه ويفني تلك، من يوهمنا اننا نستعيد والحق أننا نستعاد تناغشني بورفؤاد، تستدعي بورتوفيق، كلاهما هامش، علي الحد، علي الحافة، ملحق بما هو اشمل لكن استغراقي واستعادتي لنثار مما كان يمددهما ويدفعهما الي حيث لا أتوقع ولا اتصور، اري بورتوفيق في مرحلة ما قبل يونيو، قبل الهزيمة، قبل التهجير، يوما ما، غروب وليّ، لا.. لا، ما قبل، قرص الشرق الناحية الغربية معلق بحيث يمكن رؤيته كاملا، لماذا عبرت بالمعدية؟. ربما لأتفرج علي سفن القافلة التي كانت تنتظر العبور، الاضواء، تحديق البحارة الاغراب، الاعلام المختلفة التي ترفعها كل سفينة، حركة البمبوطية الخفيفة، السريعة، نزول الركاب من العبّارة في المرسي، خروج العجلات والعربات الثلاث. امضي في الطريق، أتابع تفرق الخلق، كل الي بيته، وقتئذ كانت الضاحية مسفرة عن خلاء بلاحد، اتمهل اتابع اختفاءهم داخل البيوت، تنتابني حالة من التأثر، لها صدي عندي حتي الآن، بعد ان كانوا جمعا صاروا فرادي، آخر من أراه يمشي بطيئا في اتجاه الخلاء الذي يلي البيوت حيث الشاطيء والبحر، الي اين؟ لا أعرف، اسرعت الخطي غير أنه غاب عن بصري.
في بورسعيد
وصولنا الي بورسعيد، مكتب المخابرات الحربية في بيت جدرانه وسقفه من خشب، ضابط فقد احدي عينيه، وضع جلوسه هجومي، يحاور مصطفي حسين، يسأله عن اشخاص باسمائهم كاملة، بعد خروجنا يقول مصطفي إن من سأل عنهم كانوا في مواقع مهمة.
نعبر إلي الشرق، بورفؤاد ماتزال، العلم المصري يرفرف فوقها. لمسافة عشرة كيلو مترات وحتي نقطة رأس العش الارض فوقها سرايا الصاعقة، معركة رأس العش جرت علي مقربة هنا، طابور مدرع معاد بدأ التقدم الي بورفؤاد ليكمل احتلال سيناء، تصدت لهم سرية من قوات الصاعقة، جري اشتباك عنيف، توقفت المدرعات مدمرة ولم تستطع التقدم، أهمية المعركة انها بعد حوالي ثلاثة اسابيع من وقف اطلاق النار، مايزال جنود يظهرون في أحوال صعبة، الهزيمة مروعة، في رأس العش جري اختبار، مشاة في مواجهة دروع، سيتكرر ذلك فيما بعد، سأكون أول من يلتقي بعبد العاطي، ها نحن بعد حوالي عام من الاشتباك، لا.. المعركة علي وجه الدقة، تحدث الينا من شارك فيها، تتداخل الوجوه الآن، كان ممنوعا ذكر الجندي او الضابط كاملا، اعتدنا ان نقول »المقاتل فلان..« عدا الحالات الاستثنائية، مثل عبدالعاطي، جئنا مباشرة الي الكيلو عشرة، الي رأس العش، بصحبة مكرم الذي سيرافقني ما تلا من سنوات، مايعنيه التقاط لحظة، لايعبأ بطيران أو قصف مدفعي، لم تتغير ملامحه في أخطر الظروف، فقط عند انفعاله او تعبيره عما يجيش بصدره لشيء مؤثر، كلماته قليلة غير أنها دالة، كان الصمت علي الضفتين، قواتنا علي الناحية الأخري، عشرة كيلو مترات من سيناء محررة تكفل لنا حضورا أمنا، نقف ونتحرك فوق الارض التي يحتل العدو امتدادها، القيمة رمزية، فجأة اتوقف رغم انني كنت استعيد لحظة بورفؤاد الغروبية، تداخل عليّ ما اتخيله وما جري في الواقع، كأني طائر أو مثبت فيلقطة مرتفعة، أتمكن من رؤية البيوت كلها، هادئة، بفعل كل منها عن الآخر ممر اقل من شارع واوسع من مضيق، التفت، آخر من ركبوا معي العبارة يلج بيتا، يلج بيتا، ياسيدي، ياسيدي قللي من انت، جئت مفردا وتغيب مفردا، هل رأيته فعلا أم انني أري ما تمنيته ام انني اقلق لحظة موازية غير ان كافة مفرداتها معارة، عندما نقلت قسرا الي المنيا، كانت المدينة تخلو تماما تقريبا من المارة، امشي بطيئا متأملا الواجهات وأصغي الي ما تيسر من اصوات تفلت الي صمت الليل، كانت البلاد هادئة والكل يهجعون في سلام مبشرين، ولكن الكل مفرد، الكل من افراد، الوجود فردي، المجيء الي العالم فردي والرحيل فردي، حتي في الحرب، القدوم أغتراب فلاصحبة ولا رفقة، الغربة هي الأصل والألفة استثناء، حتي اذا ادامت قليلا تولي، تنتهي، الغربة بداية ونهاية، ومسار ايضا، يعجبني ذلك، اصغي الي ما قلته بصمتي، بابتعادي، باصغائي، يتكاثف قطري فاوشك علي تخفيف وخذه بذرف دمعتين تحية للصمت الذي يغمر الضفتين، لايبدده، لا يقطعه إلا تماس موجة وموجة، تعاودني اللحظة في معزلي، احيد عن المسار، اقف علي حافة القناة، بمفردي تماما، هدف جلي للقنص من الجانبين، ربما ظن احد جنودنا انني فرد من الجانب الآخر لظهوري المفاجيء، علي وقوفي بقميص رمادي وبنطلون أزرق، ملابس مدنية، لم انتظم بعد محررا عسكريا، مكرم يهرع خلفي، هل وصفني بالمجنون؟ ربما، المهم انه التقط الصورة، قام بتثبيت اللحظة، صانها من البلي، ورغم تعدد التنقلات وكثرة فرز الاوراق ماتزال، قطع صغير يبدأ من حافتها سري لثلاثة سنتيمترات، متخللا مياه القناة، اخبروني بتقنيات جديدة تحفظ النصوص القديمة المهددة بالتحلل، ومنها الفوتغرافيا، غير انني لم أقدم، مكرم اعتاد القصف بكل العبارات، الالف رطل لم تثنه عن اشهار عدسته، لعدة اعوام ظل يسعي لتصوير القذيفة لحظة خروجها من فوهة المدفع، كاد يتسبب في اشتباك واسع النطاق، كنا في موقع للمدفعية مطل علي مياه القناة في منطقة البحيرات، لدي قائد الموقع خريطة دقيقة بالاهداف المواجهة، يمكنه القصف في أي وقت، والرد بدون حد، حوالي عامين لم يكن مسموحا بفتح النار الا في حالات الضرورة القصوي، بعد استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض واشتداد حرب الاستنزاف عبر القناة اصبح القصف متصلا والغارات الجوية مثل الساقية ورأيت ما رأيت من الهول المتوالي ولهذا مكانه وزمنه الذي أروي فيه بعد لملمة اللحظات المتناثرة، في هذا المكان سدد قائد الموقع قصفة من مدافع الهاوتزر الموزعة علي مسافات شبه متساوية، اقتنص مكرم الصورة التي حاولها طويلا، لحظة خروج القذيفة، ذلك الضوء المنصهر الذي لايدوم الا جزء من الثانية، بدا مسرورا وملامحه مغطاة بالرماد أو التراب، اقترب كثيرا من الفوهة، دخل منطقة التأثير عند الانطلاق، كان ممكنا للأمر ان ينتهي هنا ولكن يبدو أن القذيفة اصابت هدفا موجعا هناك، اجهزة الرصد والتنصت سجلت اصوات الاستغاثات، الرد لايتأخر كثيرا عندها، اقلعت طائرات السكاي هوك من مطار المليز القريب، بدأ الهجوم وكانت ليلة، كنا نرقد تحت الارض في احد خنادق المواصلات،
»صورتك يامكرم كانت حتكلفنا ارواحنا..«
يشير بيده
»انت لاتعرف القيمة الفنية«..
قنص الضوء
ثم يقول ان تكتيك قنص الضوء من أوعر الطرق، طبعا اعتاد القصف، لذلك عندما سمع الطلقات فوق المنصة لم يكن هذا الا طفطفة خفيفة بالقياس إلي ما عاشه، الالف رطل تنزل من الطائرة المهاجمة مثل الزير، يتابعها البصر لحظة نزولها الي الارض، غير انني كنت اثق من قوة اعصابه واستغراقه الوطني، مكرم جاد الكريم، مكرم جاد الكريم، قيل لي انه سافر الي كندا، هل يطيق الاغتراب؟، لابد ان ضغوطا اجبرته، لابد انه العجز بعد كلل الرؤية وهو من كان يرصد دبيب النمل في حبات الرمل بعد الغروب، مرة كنا في دهشور، دعينا الي قصف تدريبي لمدفعية الهاون الثقيل، والمالوتكا المعروف باسم آخر عندنا، فهو، صاروخ موجه بسلك ضد الدبابات، هذا ما استخدمه عبدالعاطي ومن معه، يقف عقيد اذكره تماما، كأنه امامي الآن، يمت بقرابة لزميلة صحفية تعمل بمؤسسة روزاليوسف وقتئذ، اسمه العقيد جلال زايد، ضابط مدرعات وكانت بيننا مودة، فيما بعد وخلال وقف اطلاق النار يبدو انه تورط في حركة غريبة عندما قام ضابط بتحريك مدرعات قاصدا ميدان الحسين بهدف الانقلاب، جري ذلك خلال رمضان، كنا نسكن عمارة الاسكان في ميدان باب الشعرية، عندما سمعت صوت الجنزير في الطريق أيقنت بوقوع أمر غير عادي، عندما تمشي المدرعات علي الجنزير فإنها تكون مستنفرة، ما علاقة العقيد جلال بذلك التحرك الغريب؟ لا ادري حتي الآن. اذكر اسم قائد المحاولة بوضوح مع ان استدعائي للاسماء مضطرب خلال السنة الاخيرة وبالاخص بعد بدء استخدامي تلك الحقن التي تعيد صياغة الجسم بآثارها الجانبية العجيبة، وهذا ما امر به وقت ذلك التدوين.
فهد
اشار العقيد جلال الي صاروخ المالوتيكا ثلاثة في حقيبة خاصة، الجندي يستعد لإطلاقه ممسكا المقبض الذي يحرك السلك وبالتالي الصاروخ بدأ قراءة الفاتحة حتي الرشق في علامة الهدف.
»هل تتصور ان مثل هذه الصواريخ ستؤثر علي المدرعات؟
انظر الي الدبابة.. هل يمكن المقارنة..
عبدالعاطي في موقع الطالبة يمسك بيدي يمر علي الست وعشرين دبابة التي دمرها، بعضها مازال ساخنا، اشار الي ثلاث عربات مدرعة من طراز بي ام 111. قال متحسرا انهم رفضوا ادراجهم في التقرير لأنهم عربات نقل مشاة مجنزرة، فقط الدبابات، سنتورين، باتون 62، اشار الي واحدة باتون. واحدة بالذات، قال انها راوغته وكادت تحقق الاقتراب القاتل، لكنه كان متقن المناورة وتعرف علي امكانيات الصاروخ، تمكن من التوجيه القاتل.
اصغي الي صوت عبدالعاطي، الي حديث اللواء عبدالجابر، التلال الرملية المتعاقبة، هذه المنطقة من القطاع الاوسط، امام الثغرة مباشرة، الصحراء تتصل فجأة بدهشور، مكرم يسبقني بخطوات، يصحبنا ضابط برتبة نقيب، أتذكر قوامه الرياضي وتغيب عني ملامحه اما اسمه فلا أثر له، مهمته اطلاعنا علي اماكن سقوط القذائف ضمن المشروع التدريبي، قال فخورا، متباهيا..
»خط واحد مثل المسطرة..«
خواء ممتد، صمت عقيم، استعيد بورفؤاد، أري البيوت والفرادي، يجري لنا ما ارجيء ذكره لغرابته وفرادته، استمر السكون الغيبي كأننا خرجنا من المنظومة، فجأة يتسمسم نغم من الآلة التي تهزهز مكنوني، غريب أمري، متعلق انا بالوتريات فكأنها صيغت لي، الدبابة ذات الوتر اليتيم، الواحد، تخفضني وترفعني وتذريني في اتجاهات غير مدونة، تبثني بثا، اما السمسمية فتطلعني علي اراضي لم توجد بعد، يتقدمني منها دليل الي كل ما حرصت علي اخفائه ومداراته، السيتار الايراني، الاذربيجاني، يذهب بي كل مذهب، في الاوتار ايا كان مصدرها تكمني شجوني ودفائني.
ما الذي أنجز ذلك العزف المرهف؟. انه الصمت الغروبي في هذه المنطقة من الصحراء والتي كدنا نهلك عندها، صوت بشري ينبع من جهة مقابلة، العزف من ناحية والصوت من جهة وما بينهما أتفر ولا اتجمع، تلك بداية وعيي مأساوية الرقص بالتحديد يوم رؤيتي عمي ابراهيم ينتفض بجسده الفاره ليبدأ خطوة البمبوطية كما بدأت، لا تجميل ولاتحريف، رغم اكتشافي فيما بعد ان لكل راقص خطوته واتجاهه، لم أعرف موسيقي قادرة علي استذراف دمعي مثل السمسمية، استنفر بكلي مصغيا.
القلب دا مش ممكن
يمكن يصادف يمكن
قبطان طالع يتمشي
عينه علي طرف الممشي
ياه، بمفردي، موجع بعد ادراكي الدبيب الخفي، لا الم، لاوخز، انما سريان هاديء لايمكن الاستدلال عليه، غير أن هذا التأثير أصاب مني منزلا مباشرا، اطوف بكل بيوت بورفؤاد وكل ما شيده الانسان، عندما اتنبهت الي تدفق المكان عليّ في صمتي وعزلتي ظننت انني سوف استدعي كافة ما عاينته وقد طفت كثيرا وعاينت من الصين الي اقصي الغرب عند حدود الاسكا وتمهلت عند مشارف الفلك ولولا العقبات لاشرعت في المجرة، لكن كل ما استعيده ينتمي الي ما عرفته منذ مولدي، تتحرك يداي بما لم اعهده من قبل، تتبدل ملامحي حتي لا اقدر علي التعرف الي ما كنته ولا الي ما عهدته ولا الي ما أتخيله، أحاول اللحاق بهذا القبطان، الا ان عم عبدالوارث الدسوقي يفاجئني مالك؟ لم يتغير منك شيء..
اهم بتقبيل يده، غير انه يتدارك شروعي، يشير الي اللا جهة، الي حيث يتفرفط قلبي، المح عم حسن السوداني تلك الليلة. واقف علي طرف الممشي والممشي
لا ينتهي عند نقطة محددة، فقط النغم يحملني اليه، واشارة عم عبدالوارث تؤكد مالاح عندي، ما بان لي »عينه علي طرف الممشي«. النجدة ياعم حسن، الحق بي، انا في اللاهنا، يا احباب هذه الليلة في عرضكم.
القلب دا مش ممكن
يمكن يصادف يمكن
قبطان طالع يتمشي
آه،آه، آه
عينه علي طرف الممشي
عينه علي طرف الممشي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.